تطلع الزمان إلي الأفق البعيد عبر شاطيء المتوسط, حيث الساحل الشمالي المصري الذي يزدحم بعشرات الآلاف من المصريين الذين يقضون صباحهم سباحة في البحر, ومساءهم في ثرثرة تمتد حتي الساعات الأولي من الصباح يستحيل أن تخلو من حوارات طويلة ومناقشات مستفيضة حول الشئون المصرية والهموم الوطنية والأوضاع الداخلية, وقد ابتدر الزمان الإنسان المصري الذي يقف أمامه قائلا( هذا هو ساحل بلادكم الممتد بشواطئه الرائعة تتعانق حولها الثقافات
التي جعلت من المتوسط بحق بحيرة الحضارات العظمي الفرعونية والإغريقية والرومانية, إنه ذلك الساحل الذي وطأته قوات الإسكندر الأكبر, ثم انتشر الوجود الروماني بعده بعدة قرون, ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتجعل منه ميدانا للمعارك الطاحنة بين دول الحلفاء ودول المحور, ومازال يقبع في تربته اثنان وعشرون مليون لغم حي يمتد وجودها لمسافات طويلة في عمق الصحراء), وأضاف الزمان( لعل مصر الإغريقية تذكركم بقضية الديمقراطية,
فاليونانيون القدماء هم الذين اخترعوا فكرة التمثيل النيابي في دولة المدينة الإغريقية, أما الرومان فيجب أن يذكروكم أيضا بسيادة القانون وأهمية احترامه والالتزام بالتطبيق العادل لأحكامه, فهم أصحاب القانون الروماني الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وكأنه يستكمل شريعة' حمورابي' في بلاد الرافدين, ويفتح الباب أمام أكثر الشرائع ثراء وهي الشريعة الإسلامية في ظل الحضارة العربية) عندئذ نظر إليه الإنسان المصري مبتسما وقال للزمان( إن الحوار النظري لا يفيدنا والسفسطة اللفظية والمناقشات البيزنطية ليست هوايتي الآن ولا من أولوياتي, فمشاكلنا كثيرة والمستقبل أمامنا غامض, ونحن نتطلع إلي ما يمكن أن يحل مشاكلنا ويخرجنا من مأزق المجهول الذي ينتظرنا, فهل تتخيل أيها الزمان أن هذا الساحل الذي يمتد من الإسكندرية إلي الحدود الليبية قد جري التعامل معه بشكل فردي لا يخلو من العشوائية, وإعمار جزئي يفتقد الرؤية الشاملة والمنظور المتكامل حتي أنه افتقد وجود خطـة رئيسـةMasterPlan فظهرت الكتل الخرسانية والقري الأسمنتية دون توزيع سليم, إلي جانب غياب الخدمات الأساسية لاسيما الصحية منها خصوصا طب الحوادث,
وكان باستطاعتنا أن نجعل من هذا الشاطيء الذي لا نظير للون مياهه' التركوازية'' ريفييرا مصرية' تنافس' الريفييرا الفرنسية والإيطالية', ولكن مشكلتنا دائما هي غياب التخطيط الموحد وافتقار الرؤية الشاملة وتغليب الاجتهادات الفردية علي الأبحاث المدروسة التي تمهد لخطط سليمة وبرامج ترتبط بعنصري المكان والزمان حتي نقدمها هدية حقيقية للإنسان) فتنهد الزمان وسحب نفسا طويلا من هواء البحر النقي المشبع برطوبة النهار القائظ لكي يقول( نعم, إنها مشكلتكم دائما أيها المصريون فأنتم في عجلة من أمركم لا تبحثون أموركم جيدا وتقتحمون المشروعات في جرأة تحسدون عليها, ولا بأس من ذلك إذا كانت مدروسة وخضعت لحوار بين المتخصصين والعامة, ولكنكم لا تفعلون ذلك, والساحل الشمالي المصري دليل إدانة قوي لأسلوب تعاملكم مع ثروتكم الوطنية, فالشواطيء تمثل قيمة مهمة ومصدرا ضخما للدخل السيـاحي والترفيه الوطني وإنعاش طبقات المجتمع بمستوياتها المختلفة ولكنكم آثرتم ـ كعهدكم دائما ـ تغليب العشوائية وإهمال التنظيم وتغييب الخطط السليمة, وها أنتم تحصدون النتيجة ولا تحققون ما تستحقون,
إنكم خبراء في تبديد الموارد الطبيعية والبشرية بنقص المعرفة أحيانا وشيوع الفساد أحيانا أخري, والنتيجة واحدة فالمحصلة ليست في صالح مستقبل أجيالكم القادمة, إنني ألخص عيوبكم في جملة واحدة هي' غياب الشفافية وافتقاد المصداقية', فأنتم تقولون ما لا تفعلون, وتفعلون ما لا تقولون, وتلك ازدواجية مقيتة عطلت تقدمكم ونالت من مكانتكم وهبطت بهيبتكم) وما إن انتهي الزمان من كلماته القاسية حتي بدت علي وجه الإنسان المصري علامات الانزعاج وقسمات الغضب وصاح هائجا( أيها الزمان كفي جلدا للذات وتحطيما للمعنويات, فالصورة ليست قاتمة كما تراها, فهناك إيجابيات كثيرة ولكن الكل مغرم بالحديث عن السلبيات وحدها, نعم إن الصورة ليست وردية والمشكلات بغير حدود والأزمات بلا حلول, ولكن تبقي في المصريين' جينات' الإبداع الكامنة والتي تستطيع أن تخرج من المأزق لتعيد صياغة الحياة من جديد, فالإصلاح الشامل هو المنقذ الوحيد لما تراه من أخطاء وانحرافات وتجاوزات, ولن يعتدل مسارنا إلا إذا فصلنا بين السلطة والثروة في جانب بضرب الفساد, وفصلنا بين الدين والسياسة في جانب آخر بضرب التطرف,
أما حديثكم عن المصداقية والشفافية فإنني أشاطركم فيه الرأي تماما وأتفق مع ما ذهبتم إليه بل وأزيد عليه قولي إن بداية الطريق تبدأ من الصدق مع الذات والوضوح مع النفس والتوقف عن المغالطة والمكابرة في وقت واحد, إنها نصيحة للإنسان المصري والعربي بل ربما تكون مفتوحة لإنسان الجنوب في عالم يعاني التخلف ويكافح الفقر ويواجه المستقبل دون خطط واضحة أو برامج مدروسة) وعندما فرغ الإنسان المصري من حديثه نظر إليه الزمان حزينا وقال له( لن تكونوا شيئا يذكر إلا إذا خرجتم من عباءة الماضي وتحررتم من قيود الحاضر وتطلعتم إلي المستقبل الواعد, لماذا لا تضعون النقاط علي الحروف وتحسمون أموركم في وضوح حتي لا تتناقض أفعالكم مع تصريحاتكم؟ فالمصداقية لا تتحقق في ظل الثقة المفقودة والقيم المضطربة, قولوا بصوت مرتفع وأعلنوا بلغة لا لبس فيها ما هي رؤية الوطن لمستقبله في السياسة والحكم, في الثقافة والمجتمع, في الاقتصاد والعدل الاجتماعي, فالضباب يسبب الحوادث التي قد تكون قاتلة للأمم والشعوب مثلما هي للأفراد والجماعات), فابتسم الإنسان المصري وطلب مزيدا من الحوار رأي أن يكون في المرة القادمة علي ضفاف' بحيرة ناصر' لتأمل الأوضاع المصرية عند حدودها الجنوبية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/9/4/WRIT1.HTM