التقي الاثنان, الزمان والإنسان, علي شاطيء قناة السويس ينظران في اتجاه الشرق بعدما التقيا فوق هضبة الأهرام واستكملا حديثهما في ساحة الحسين أمام الأزهر الشريف ثم جاء دور حوارهما المستمر علي مشارف سيناء ذلك المعبر الذي تسلل منه الغزاة والطغاة عبر تاريخ مصر الطويل وبدأ الزمان بتوجيه حديثه إلي الإنسان قائلا( إنكم لا تتعلمون من دروس الماضي وتتكرر أخطاؤكم بشكل يدعو إلي السخرية, فالجزء الآسيوي من مصر وهو شبه جزيرة سيناء مازال يبدو مسألة ثانوية في تفكيركم, فما اكثر ما قلتم وتقولون وما اكثر ما صرحت به حكوماتكم ومازالت تصرح عن عشرات المشروعات والعديد من الأفكار لتنمية سيناء وتعزيز الوجود المصري فيها وتحويلها إلي ترسانة بشرية تبعث اشارة جديدة لكل من يتوهم أنها طريق سهل ومعبر مفتوح لاقتحام أرض الكنانة,
فمنذ الهكسوس في طفولة التاريخ المكتوب وحتي إسرائيل في نهاية القرن المشئوم لازالت سيناء هي سيناء نقطة ضعفكم ومصدر قلقكم ومبعث إغراء الطامعين فيكم وأنتم تكتفون فقط بشعارات صاخبة عن أرض الفيروز والبقعة المباركة بالوادي المقدس طوي وترددون الأحاديث عن كليم الله موسي عليه السلام وباستثناء دير سانت كاترين لا نكاد نجد لديكم مواقع لجذب السياحة الأثرية أو الدينية في سيناء فقد اكتفيتم بالمدن السياحية علي شاطئ البحر الأحمر ونسيتم تماما أعماق سيناء ومعادنها وسخاء الطبيعة عليها وشخصية البشر فيها,
يجب ألا تنسوا أن أطراف أي دولة هي في الحقيقة مفاصل الحركة فيها ونقاط الاهتمام لديها) وهنا نظر الإنسان مكابرا ومستنكرا ليقول( إنني أختلف معك أيها الزمان فسيناء قطعة غالية من الخريطة المصرية وجزء مقدس من تراب الوطن حاولنا فيها ونحاول الدفع بعمليات التنمية والإعمار وخلق أسباب الجاذبية أمام المصريين لكي يملأوا الفراغ الضخم في وسط سيناء والذي يمكن ان يغري من تسول له نفسه بأن يحل مشكلاته علي حساب أقدم خريطة في الوجود وهي خريطة الوطن المصري, وإذا كانت هناك بعض القيود القانونية المرحلية علي وجودنا العسكري فإنني إظن أن الانتشار البشري والنشاط المدني بديلان قويان كفيلان بتحويل سيناء إلي درع بشرية تحمي البوابة الشمالية الشرقية للكنانة,
ولكن دعني أكن صادقا معك وأعترف لك بأن أقوالنا في هذا السياق أكبر بكثير من أفعالنا وأن طموحتنا تجاوزت إرادتنا الوطنية في قضية سيناء التي تطفو علي السطح بشكل موسمي بل وتبدو هامشية أحيانا تكثر حولها الأشعار والأذكار والأناشيد دون النتائج الملموسة أو المشروعات الحقيقية) عندئذ التقط الزمان الخيط وقال للإنسان( هل تعتبرون أيها المصريون أن حفر قناة السويس كان نعمة أم نقمة علي بلدكم؟ حتي لقد قيل مرة أن المطلوب ان تكون القناة لمصر لا أن تكون مصر للقناة,
فقد فصل هذا الحاجز المائي الضخم الامتداد الأرضي بينكم وبين سيناء بل بين القارة الأفريقية والقارة الآسيوية وتحول إلي مصدر للضغط علي إرادتكم والتهديد لأمنكم رغم تسليمنا بكافة الفوائد الاستراتيجية والعوائد المادية والقيمة الدولية للقناة إلا أن وجودها يعد احد الأسباب التي ادت إلي بطء حركة الإعمار وعملية الانتشار التي تؤدي إلي إدماج سيناء في خريطة الدلتا والوادي) فاستوقفه الإنسان عند هذه الملاحظة لكي يقول له( لقد كان حفر القناة بآلاف الضحايا من فلاحي مصر
وهم يقومون بشقها في ظل أسلوب السخرة الذي يحيل الجهد البشري إلي عمل بغير مقابل يذكرنا أحيانا بتشييد الأهرامات وبناء المعابد والآثار الكبري في بقاع أخري غالية من أرض الوادي العجوز كما ان وصول مياه النيل إلي سيناء بشكل أفضل مما هي عليه حاليا كان يمكن ان يؤدي إلي تنمية وازدهار تحتاجهما تلك الصحراء الواسعة) وهنا نظر الزمان إلي الإنسان نظرة عميقة وتنهد طويلا كأنما يحس وقر السنين ويشعر بدورة الحياة لكي يتوجه هامسا نحو الإنسان
ويخاطبه قائلا( قد نختلف فيما قلنا ولكن الخلاف الأكبر يدور حول العنصر البشري فأنتم لم تحسنوا التعامل معه وربما لم تقدروا حجم التضحيات الضخمة التي دفعها البدو المصريون في سيناء خلال حروبكم مع إسرائيل ونسيتم أحيانا أدوارهم المشرفة في إطار الوطنية المصرية فلقد استضاف أحد شيوخ قبائل سيناء كتيبة عسكرية كاملة في ظروف الحروب الصعبة والمواجهات العسكرية الخاطفة, إنني أظن مخلصا أن الاهتمام بسكان سيناء الأصليين وإعطاءهم ما يستحقون من رعاية وعناية
هو الكفيل بأن يجعل من تلك الأرض المهجورة أحيانا المظلومة غالبا ترسانة بشرية مصرية تحافظ علي تراب الوطن وتحمي حدوده) وهنا قاطعة الإنسان مستدركا( إنني لا أختلف معك فأنت تحمل ذاكرة الأيام وحكمة العصر والأوان, إنك صوت الزمان الذي يتعلم منه الإنسان, نعم لقد أهملنا الجانب الإنساني والبعد الاجتماعي في بعض تخوم سيناء المصرية وسمحنا باختراقها من عناصر اسرائيلية بل وفلسطينية ومعهما بعض فلول التنظيمات الإرهابية الدولية فكانت التفجيرات والمواجهات والحلول الأمنية التي تعاملت مع البدو بنفس ـ أسلوب تعاملها مع ابن الدلتا والوادي وقد غاب عن الجميع ان البدوي شديد الحساسية لكرامته قوي الانتماء لقبيلته غير مستقر في بقعته, إن علينا أن نهتم بأطراف الخريطة الوطنية المقدسة من بدو سيناء إلي أبناء النوبة إلي عرب الصحراء الغربية, إنني أتفق معك في جوهر ما قلت وإن اختلفنا في بعض التفاصيل) عندئذ أطل الزمان وسأل الإنسان( أين يكون لقاؤنا القادم؟) فأجاب الإنسان( إنني أريد ان يكون لقاؤنا القادم علي ضفاف الساحل الشمالي عند شاطئ المتوسط حيث يكتظ المصريون حاليا في منطقة جري إهدار قيمتها وتشويه صورتها وتبديد ثروتها!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/8/21/WRIT1.HTM