التقي الزمان والإنسان مرة أخري ــ فوق هضبة الأهرامات ــ يتحاوران ودار حديثهما حول أغلي الأوطان, فتساءل الزمان وهو ينظر بدهشة إلي الإنسان قائلا: ماذا جري في مصر؟ إنكم تستحقون أوضاعا أفضل بكثير مما أنتم عليه فتاريخكم طويل, وماضيكم عريق, وتملكون وفرة في المياه مع مجري النهر إلي جانب اعتدال المناخ بحكم الموقع الجغرافي الفريد, فضلا عن شواطيء واسعة علي البحرين الأبيض والأحمر, وموارد بشرية متجددة ذات كفاءات متميزة وقدرات مشهود لها, ومع ذلك فأنتم تعانون من مشكلات كثيرة ليس آخرها العطش ولا أشدها الفقر ولا أوسعها شيوع الفساد في كثير من مراكز الإدارة وزوايا المجتمع, مع الاشتباك الواضح بين التيارات الدينية والمؤسسات السياسية في جانب والتداخل بين الثروة والسلطة والملكية والإدارة في جانب آخر, عندئذ تنهد الإنسان واستغرق في تفكير عميق وهو ينظر إلي الأفق اللامحدود ويستجمع شتات أفكارة لعله يقدم إجابة شافية أو تحليلا مقبولا لمعاناة المصريين, رغم كل ما لديهم من مقومات صنعها تراكم التاريخ وفرادة الجغرافيا, فتطلع الإنسان إلي الزمان وقال: إن المشكلة الحقيقية هي أن شيئا ما قد أصاب العقل المصري
فلم يعد معنيا بالتجويد في العمل والجدية في الإنتاج والاستمرارية في تحقيق الأهداف, فما بدأ المصريون مبادرة إلا وتوقفوا بعد فترة عنها, فلقد دخلت مصر عصر الطاقة النووية وصواريخ الفضاء في الستينيات من القرن العشرين وتحدث المصريون طويلا عن الثورة الخضراء والإصلاح الإداري وصولا إلي الحكومة الالكترونية, ولكن المشكلات لاتزال قائمة إذ لايوجد لديهم صبر أجدادهم الذين بنوا الأهرامات ولاحتي الذين حفروا قناة السويس, فهم يستعجلون النتائج ويجهضون التجارب ولايحترمون القانون, ولا أعلم من أين جاء كل ذلك, هل من الإحباط الذي صنعته الهزيمة العسكرية, أم من تهاوي بعض القيم الأخلاقية, أم من التناقضات الاجتماعية أو منها جميعا؟ ولكن الذي لاشك فيه هو أن النتيجة لاتتناسب أبدا مع التاريخ العريق والمكانة الحضارية والدور الريادي, فمشكلة مصر تتصل بمنهجية التفكير أساسا فالرؤية تكون أحيانا جزئية ــ وهذه علي كل حال صفة عربية ــ فضلا عن تضارب الأولويات والاستغراق في مسائل جانبية علي حساب القضايا الكبري, بالإضافة إلي تغليب الشكل علي المضمون, فنحن نقول مالا نفعل ونفعل مالانقول, وهذه مأساة الحياة علي الأرض العربية كلها
وليس في جزء منها أو في دولة بذاتها, وهنا أشرق وجه الزمان وقال: إن هذا التوصيف هو بداية العلاج, فاكتشاف المريض لأعراض مرضه هو نصف الطريق إلي الشفاء, فعندما يدرك البشر مرضهم الحقيقي فإن ذلك سوف يدفعهم إلي التخلص منه والتعافي من آثاره, وأنتم المصريون يجب ألا تنزعجوا إلي حد الجلد الدائم للذات بل إن عليكم تأمل ما يجري حولكم واستعادة دوركم الحيوي في المنطقة, فلا يمكن أن يرسم الغرب مع إسرائيل وإيران وتركيا مستقبل الشرق الأوسط والعرب متفرجون لأنهم فرطوا في كثير مما يملكون وقد حان الوقت للصحوة العربية واليقظة القومية والخلاص من حالة التراجع التي نعيشها في كثير من المجالات ذات التأثير في المستقبل الذي تتطلع إليه أجيالنا القادمة,
ويجب ألا ينسي أبناء الكنانة أن اليابان أرسلت بعثة إلي مصر في القرن التاسع عشر للتعرف علي ملامح التجربة النهضوية التي جاء بها حكم أسرة محمد علي, ولماذا نذهب بعيدا فإن دولا مثل الكوريتين وسنغافورة وماليزيا واندونيسيا بل الهند ذاتها كانت تنظر إلي مصر باعتبارها قلعة للتقدم ومنارة للمعرفة وقاعدة للانطلاق إلي الأمام,
ولكن الذي حدث أنه قد جاء علي الإنسان المصري حين من الدهر فقد فيه بوصلة التوجه واختلطت لديه الأوراق, فكانت النتيجة هي مانراه الآن, ولكنني أظن مخلصا من واقع تجارب الحياة وخبرات التاريخ أن الوضع لا يدعو إلي اليأس, فما أكثر الأمم التي تراجعت قليلا ثم اندفعت إلي الأمام كالسهم المارق يفتح أبواب العصر ويطل من نوافذ العلم, ولابد أن يدرك الجميع أن الإصلاح عملية شاملة لا تقف عند حدود ولا تضعف أمام التحديات ولا تستسلم للإحباط العام,
عندئذ لمع بريق شديد في عيني الإنسان وهو يستعيد الأمل كمن يسترد الوعي المفقود ويستلهم الرؤية الغائبة, وبادر الزمان قائلا: إذا كانت الثقافة هي أغلي سلعة صدرتها مصر إلي دول الشرق العربي وشمال إفريقيا وجنوب الوادي في القرنين التاسع عشر والعشرين, فإن ما عرفته النهضة التعليمية في مصر منذ أيام رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك إلي عصر طه حسين وإسماعيل القباني هي التي شدت المنطقة نحو الجامعات المصرية وربطتهم بالمفكرين والمثقفين في أرض الكنانة, وجعلت التواصل الدائم بين أقطار العرب نموذجا للتعاون والتكامل والانصهار, فأين التعليم المصري من كل ذلك الآن؟ لقد سبقتنا دول كثيرة في مجالات كانت هي ساحاتنا الطبيعية بفعل تراجع المنظومة التعليمية,
ومن لا يعترف بأهمية التعليم في حاضر الأمم ومستقبل الشعوب فهو واهم, ذلك أنني أزعم أن الدور السياسي المصري قد ارتبط دائما بالنهضة التعليمية ورواج السلعة الثقافية وازدهار المد القومي, ولعلنا نتذكر كيف كان المثقفون العرب ينتظرون العدد الشهري من مجلة الرسالة التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات من مصر وكيف اختلط الوافدون من مثقفي الشام مع البيئة المصرية الحاضنة فولدت الأهرام والهلال وروز اليوسف إلي جانب النهضة المسرحية والتألق الفني والازدهار السينمائي عندما لمعت في سماء مصر اسماء مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وجورجي زيدان وعباس العقاد وسلامة موسي حين كان الجميع ينظرون إلي أهل الفكر بحكم قامتهم الثقافية العالية دون تفرقة بسبب جنسية أو دين, فكيف الحال بنا الآن, وقد تمزقت اوصال الأمة فالشيعة والسنة يتصارعان وفتح وحماس تتقاتلان والأمة تعيش في غيبوبة ضبابية مع عجز عن الانطلاق الحقيقي رغم حيازة كل أسبابه من موارد طبيعية وعناصر بشرية وخبرات إنسانية واستعدادات عصرية, عندئذ ابتسم الزمان ودعا الإنسان ليصحبه في جولة جديدة ينتقلان فيه من هضبة الأهرام إلي ميدان الحسين أمام جامع الأزهر لحوار حول دور المؤسسة الدينية في دعم الدولة المدنية وتأكيد الشخصية الوسطية للمحروسة أم الدنيا!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/7/24/WRIT1.HTM