في ظل موجة الإحباط التي تجتاح الوطن وحالة التردي النفسي الذي يسيطر علي قطاعات كبيرة من الناس, فإن وميض الأمل ينطلق بين حين وآخر ليبعث فينا شيئا من الثقة ويأخذ عنا بعض مظاهر اليأس, فالذين يتحدثون بمناسبة ـ وغير مناسبة ـ عن تراجع الدور المصري وحالة الاحتقان الداخلي في أرض الكنانة إنما يتعاملون مع الأمور الظاهرة ولا يدخلون إلي جوهر القضايا ولب المسائل, إذ أن الأمر يحتاج إلي دراسة أعمق وبحث موضوعي يقوم علي منهاجية واضحة تضع كل شئ في مكانه, ولعلي أرصد هنا عددا من الحقائق التي يمكن أن تحيي لدي المصريين الشعور بالثقة, كما تعطي العرب أيضا ثقة في مصر التي أحبوها وارتبطوا بها مثلما أحبهم شعبها وارتبط بهم لأن' أم الدنيا' إذا كانت تعاني حاليا فإنها' المحروسة' دائما, والآن دعنا نقلب بعض الملفات لعلها تحرك لدينا موجة من التفاؤل تبدد سحب الماضي وغيوم الحاضر وضباب المستقبل ومن هذه الحقائق ما يلي:-
أولا: إن الجيش المصري الذي ارتبط دائما بالدولة العصرية فوق الأرض المصرية هو درع الوطن وملاذه في المحن, إنه جيش يملك تقاليد راسخة لمؤسسة عسكرية متماسكة لأنها عرفت الانتصار والانكسار وخرج جنودها وضباطها من صفوف الشعب المصري دون تفرقة بين ريف وحضر أو قري ومدن أو مسلمين ومسيحيين فالجيش المصري هو البوتقة التي انصهرت فيها الشخصية المصرية علي مر العصور بدءا من' قادش' مرورا' بحطين' و'عين جالوت' وصولا إلي حرب أكتوبر الظافرة, وحتي عندما حدثت نكسة1967 فإن الجيش المصري ـ من حيث تكوينه وقدراته ـ لم يكن مسئولا عن الهزيمة بقدر ما كانت المسئولية سياسية تتركز قرب القمة بينما ضباطه وجنوده ضربوا أروع أمثلة الفداء والتضحية وقاتلوا في معركة' رأس العش' بعد أيام قليلة من هزيمة حرب الأيام الستة, كما أننا نؤكد هنا أن الجيش المصري مازال يمثل عنصر الأمان لشعبه وأمته ولقد استمعت أخيرا إلي وزير الدفاع الأمريكي في زيارته الأخيرة للمنطقة وهو يقول إن الجيش المصري هو( أكبر جيوش المنطقة وأكثرها مهنية) ومازلت أذكر أنني زرت منذ أشهر قليلة ضمن وفد من البرلمان المصري بعض مواقع جيشنا الكبير بدعوة من القائد العام للقوات المسلحة وبهرنا ما لمسناه من كفاءة وتطور وتقنية, وشعرنا يومها بأننا نستند إلي ركيزة نعتز بها ونعتمد عليها ونعتبرها خط الدفاع عن وحدتنا الوطنية وكرامتنا القومية ومكانتنا الدولية.
ثانيا: إن هناك مؤسسات أخري لاتزال متماسكة برغم كل ما اعتراها من مشكلات وما طرأ عليها من ظروف, فالشرطة والقضاء والسلك الدبلوماسي والجامعات والنقابات وهيئات المجتمع المدني مازالت كلها تتمتع بصلابة نسبية لا أدعي معها أن كل شئ وردي أو أنه لم يطرأ عليها بعض الخفوت في النغمة أو الشحوب في اللون, ذلك أن ثقافة الزحام وفلسفة الأعداد الكبيرة كانتا معا خصما من ارتقاء النوعية وعراقة التقاليد, وهنا أشير إلي أن المهن والحرف تجدان في مصر ميراثا ثقافيا واجتماعيا لا يستهان به هو جزء من تراث الوطن, ونحن نتطلع إلي يوم تعود فيه التقاليد إلي سيرتها الأولي ومسارها الصحيح,' فالروب' الجامعي ـ علي سبيل المثال ـ ليس مسألة شكلية كما أن' روب' المحاماة ليس للزينة, والأعراف الجامعية ليست من قبيل المبالغة فالشكل تعبير عن المضمون والمظهر انعكاس للجوهر ولا يمكن أن نتصور أن مصر التي عرفت الزراعة في طفولة التاريخ واشتغلت بصناعة الحضارات علي امتداد عصوره يمكن أن تفرط الآن في هذا الميراث الذي لا يجادل فيه أحد.
ثالثا: إن مصر يجب ألا تعتمد فقط علي ماضيها البعيد وتاريخها المجيد إنما يتعين عليها أن تقدم صورتها العصرية برغم قسوة الظروف وصعوبة الأوضاع, ويكفي أن نتذكر الآن أنها قدمت للمجتمع الدولي في العقود الأخيرة أمينا عاما للأمم المتحدة, ومديرا عاما للوكالة الدولية للطاقة الذرية, ورئيسا لاتحاد البرلمان الدولي وقبلهم جميعا أول مدير للمنظمة الدولية للتنمية الصناعية فضلا عن عشرات الأسماء اللامعة التي ترصع سماء العالم في مختلف المجالات, كما أن مصر هي أول بلد في الشرق الأوسط يبني' مترو الأنفاق' وهي أيضا التي حصدت جوائز' نوبل' أربع مرات في السنوات الأخيرة وهي التي بنت' الأوبرا' للمرة الثانية بعد أكثر من قرن كامل من' الأوبرا' الأولي, كما أنها تملك أكبر حشد من العقول والخبرات علي مستوي دول الجنوب بعد' الهند' كذلك فإن لديها مقومات لا تنتهي وهو أمر يدعوها إلي المحافظة عليها والتمسك بها, وأنا أظن أن الصورة ليست قاتمة علي النحو الذي تصوره المعارضة كما أنها ليست وردية بالدرجة التي تروج لها الحكومة.
.. فإذا كانت هذه ملاحظات عامة علي الدور المصري والمقومات الداخلية التي يستند إليها فإننا نقول: إن ذلك الدور ـ الذي اعتمد في القرنين التاسع عشر والعشرين علي المكانة العسكرية والمد التحرري والإشعاع التنويري حيث تمثلت أغلي سلع التصدير المصري في الثقافة والتعليم والإعلام ـ قادر علي أن يتواصل مع أمته معتمدا علي مقومات جديدة منها الانفتاح العصري علي العالم والاتجاه نحو الديمقراطية الحقيقية وتقديم نموذج للدولة الحديثة, أما المضي في نشر روح الإحباط والترويج لثقافة اليأس والاستغراق في جلد الذات فكلها عوامل سلبية لا جدوي منها ولا مبرر لها, إنني أريد ـ باختصار ـ أن أشير إلي تلك الآمال الباقية التي تمثل الرصيد الدائم لشعب لا يتوقف عطاؤه ولا ينتكس رأسه, فالأمل لا يتوقف والدور لا ينتهي والشعوب لا تغيب!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/6/26/WRIT1.HTM