تبدو كثير من مشكلاتنا المستعصية علي الحل ـ والتي نشأت عن تراكم مجموعة من القيم والأعراف والأخلاقيات ـ قابلة للاختفاء اذا ما أعملنا بعض الأفكار والاجراءات التي ترتبط بسيادة القانون وتغليب المصلحة العليا للوطن وإعطائها الأولوية علي كل ما عداها ولقد لاحظت ـ ولاحظ كثيرون غيري ـ أننا لانحاول الخروج عن السياق العام بل نستسلم للسوابق دون تفكير عميق أو رؤية بعيدة واستطيع أن أقول هنا ان تصفية كثير من جيوب الفساد والتخلص من عيوب متأصلة في تراثنا القومي يمكن ان تتحقق بعدد من المعايير التي لو جري اعمالها لتخلصنا من قدر كبير مما نطلق عليه أمراض المجتمع المزمنة, وقد لايكون العلاج الجراحي هو بالضرورة الأفضل فالحالة التي نحن عليها لا يعالجها التدخل الجراحي وحده ولكنها تحتاج الي تمهيد واعداد وتعامل مستمر مع الواقع ويومئذ سوف تختفي المتناقضات وتتراجع الشائعات ويشعر كل مواطن أنه ينتمي الي وطن يحتويه ويكفل له أسباب الأمان وعوامل الرضا, والآن دعنا نناقش بعض المعايير المطلوبة لتحقيق صورة أفضل لوطن ننتمي إليه ونشعر بأنه يستحق أفضل بكثير مما لديه:ـ
أولا: ان الشفافية بمفهومها العصري المرتبط بالحكم الرشيد هي أساس المصداقية وهي الضمان الأكيد لشيوع الثقة وبث الطمأنينة في كافة نواحي الحياة اذ ان التفسيرات الغامضة للمواقف والتبريرات المفتعلة للقرارات تخلق نوعا من مناخ الريبة والشك وتفتح الباب علي مصراعيه أمام الأقاويل والشائعات وربما الأكاذيب أيضا لذلك فإن الاعلام الشفاف الذي يسعي لخدمة المواطن العادي ويوظف امكاناته من أجل صدق الخبر وحرية الرأي هو الإعلام القادر علي ان يوجه الرأي العام نحو الغايات المرتبطة بالمصالح العليا للبلاد والذين يتوهمون ان الشفافية نقيض للسرية التي يحتاجها الأمن القومي أحيانا واهمون لأنهم يتصورون أن اخفاء المعلومات والتستر علي الحقائق وغموض المواقف هي أمور مطلوبة لسلامة الوطن وغاياته الكبري وهذا قول مردود عليه ألف مرة ومرة, فالشفافية في رأينا هي الضمان الرئيسي للأمن القومي ومصلحة الوطن في آن واحد.
ثانيا: ان تطابق المفهوم النظري مع الواقع العملي هو أمر مهم للغاية لأنه يقضي علي الازدواجية ويرسخ في ضمير الناس ان مايقال هو ما يجري بالفعل وأنه لاتوجد مسافة بين الاثنين فاذا تحدثنا عن مجانية التعليم فالمطلوب ان نجدها بالفعل واذا تحدثنا عن تمثيل العمال والفلاحين بخمسين في المائة علي الأقل من مقاعد المجالس المنتخبة فاننا نتوقع أن نري ذلك بالفعل أيضا أما ان نتحدث عن أمور معينة ونرفع شعارات براقة ثم نكتشف أنه لا وجود لها وقد جري الالتفاف عليها فان ذلك هو العيب الحقيقي لدينا, وهنا نؤكد ان الذين يظنون ان هناك أحاديث للاستهلاك المحلي وواقع آخر لايعرفه كل الناس فإننا نقول هنا مرة أخري ان ذلك وهم وخداع يجب ان نبرأ منه.
ثالثا: ان تعزيز مبدأ تكافؤ الفرص والتوقف عن سياسة ازدواج المعايير في الداخل مثل الكيل بمكيالين عند التعيين في الوظائف خصوصا أمام الشباب هو أمر ضروري لأن بديله هو الإحباط العام وفقدان الثقة بالمستقبل ذاته وما أكثر ما رأينا من شباب ضاعت عليهم فرص يستحقونها ونالها من هم دونهم كفاءة وخبرة لاعتبارات غير موضوعية ومازلت أقدر أستاذي العظيم الدكتور بطرس بطرس غالي عندما عملت معه بعد عودتي من لندن حاملا درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم السياسية ومعي زميل آخر يسبقني في الدرجة هو السفير الدكتور محمود مرتضي وهو صاحب شخصية متزنة وعقل راجح وتوجهات فكرية متميزة حيث كلفنا الدكتور بطرس غالي وزير الدولة للشئون الخارجية في منتصف السبعينيات باصدار سلسلة من الكتب البيضاء حول القضايا الكبري والاتفاقيات المصرية الخارجية المهمة في محاولة لخلق أرشيف عصري لوزارة الخارجية وذاكرة دائمة لجهازها الدبلوماسي المرموق دوليا منذ عام1923 حتي الآن, وقد ظننا ـ أنا وزميلي ـ اننا سوف ننتقل الي احدي العواصم الأمريكية أو الأوروبية الكبري فاذا بالوزير المفكر يرسل زميلي الي بكين ويبعث بي الي نيو دلهي إعمالا لمبدأ تكافؤ الفرص واحتراما للمعايير وأشهد الله ان استفادتي من عملي في الهند خلال أربع سنوات تكاد تكون نصف خبرتي بالكامل في حياتي السياسية والدبلوماسية.
رابعا: ان تعميق مفهوم الحرية وتوسيع مساحة المشاركة السياسية واختفاء وجود سجناء الرأي هي أمور لاتبدو صعبة في دولة لديها مؤسسات عريقة, حيث عرفت الدستور والأحزاب والجامعات والنقابات وباقي مفردات المجتمع المدني منذ أكثر من قرن لذلك يدهشني كثيرا ان نكون حتي الآن أمام مشكلات حسمتها مجتمعات كثيرة منذ عشرات السنين, بينما الجدل لايزال مستمرا لدينا وحالة الاحتقان متصاعدة ومن المدهش ان مساحة الحرية تتسع ولكن الآراء تختنق في الوقت ذاته بسبب اختفاء السماحة الفكرية وغياب الليبرالية السياسية!
خامسا: ان ممالأة بعض التيارات الفكرية رغم عدم الاقتناع بها وإمساك العصا من المنتصف هي أمور أدت في النهاية الي اشتباك حقيقي بين الدين والسياسة, بين المطلق والنسبي, وتداخل بين السلطة والثروة, بين الادارة والمال, وهي أمور سقطت معها الضوابط التنفيذية والاجراءات التنظيمية التي كان يمكن ان تجعل النص التشريعي قابلا للتطبيق الحقيقي وتلك هي مأساة حياتنا وأكبر خطيئة في مسيرتنا وأخطر سقطة في حاضرنا لذلك فإنه لابد من مراجعة أمينة لهذه النقطة بالذات لأننا لاحظنا ان المواقف المعلنة تختلف عن النيات المكتومة لدي الأغلب الأعم من المشتغلين بالحياة السياسية والمعنيين بالشأن العام.
.. ألستم ترون معي ـ بعد هذا الاستعراض الموجز لعدد من المعايير الحاكمة في تحديد مستقبلنا ـ أن هناك بحق حلولا بسيطة لمشكلات مزمنة؟!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/6/12/WRIT1.HTM