عندما قال الإمام الشافعي مقولته الشهيرة: إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب, وعندما قال المفكر الفرنسي فولتير عبارته المعروفة إنني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لحرية رأي قد اختلف معه.. عندما قال الإمام المسلم مقولته, وردد المفكر المسيحي عبارته, فإنهما كانا يؤكدان معا ذلك التراث العريق لحرية الرأي في كل من الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية, ونحن نطرح هذه المقدمة لكي نؤكد أن حرية الرأي هي قضية القضايا وأم المسائل في مسيرة الأمم وحياة الشعوب, فقد ولد الإنسان حرا ويجب ألا يعيش إلا حرا ونحن لم نعرف طفلا ولد مكبل اليدين أو مغلق الفم, فالحرية حق طبيعي للبشر يرتبط بواقعة الميلاد ذاتها, أقول ذلك ونحن نتحدث عن ثقافة الاختلاف بعد أن تحدثنا من قبل عن ثقافة الاعتذار, وواقع الأمر أن الذين قالوا ان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية لم يدركوا جيدا مغبة ما ينجم حاليا عن اختلاف الرأي في بلادنا من تشويه وتجريح وغوغائية, فالتفكير الموضوعي لم يعد له وجود, وسعة الصدر أصبحت غائبة, وحق الاختلاف أضحي مقهورا, ولعلنا نرصد ذلك كله من خلال الاعتبارات التالية:
أولا: إذا كان' الساكت عن الحق شيطان أخرس' فإن صاحب الرأي هو مخلوق حر يمارس حقه الطبيعي الذي كفلته القوانين الوضعية بعدما عرفته الأعراف الفطرية, ونحن نعترف الآن بأن هناك إشكالية كبري في التعبير عن الرأي, فمساحة التسامح تضاءلت ومسافة التفاهم اختفت ولم تعد آداب الحوار هي سيدة الموقف, فالخلاف في الرأي يتحول بسرعة شديدة إلي هجوم علي صاحب الرأي وإساءة لاسمه وسمعته بغير سبب, إنه مجرد صراع شخصي وخلاف لا يستند إلي مباديء أو قيم كما أن سلوكيات الحوار قد تدنت بشكل ملحوظ ودخلت عليها مفردات بذيئة لا تليق بأصحاب الرأي وأهل الفكر وحملة القلم مهما كانت الهوة بينهم ومساحة التباين في آرائهم.
ثانيا: إن أشقاءنا السودانيين مثال للنجاح في تأكيد ثقافة الاختلاف, ولا عجب, فالشعب السوداني هو الذي استخدم العصيان المدني مرتين الأولي لإسقاط نظام إبراهيم عبود عام,1964 والثانية لخلع الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري في بداية النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين, ولقد حكي لنا ـ في إحدي أمسيات الخرطوم منذ سنوات قليلة ـ السيد إبراهيم النقد زعيم الحزب الشيوعي السوداني الذي كان مطاردا ومطلوبا في سنوات حكم جعفر نميري ولكنه طلب المشاركة في احتفال سنوي للمدرسة الثانوية التي تخرج فيها والذي يشهده الرئيس السابق للسودان, وقد أجيب السيد النقد إلي طلبه وحضر الغذاء أمام خصمه اللدود نميري في جو من الألفة والمحبة يستذكرون سنوات دراستهم ويلوكون ذكريات تلك الأيام الخوالي في مرح وسعادة, ثم طلب المسئولون عن الحفل من زعيم الحزب الشيوعي السوداني الانصراف مبكرا قبل مغادرة الرئيس نميري حتي يتمكن ذلك الزعيم اليساري من الاختفاء مرة أخري لأنه مطلوب من حكومة نميري!! فهل هناك من هو أرقي من الإخوة السودانيين في تأكيد ثقافة الاختلاف؟ بل إنني أذكر أنه بعد إقصاء الرئيس نميري عن الحكم وإقامته في حي مصر الجديدة, كنت كلما زرته في مقره وجدت لديه معظم أعضاء السفارة السودانية بالقاهرة الذين يعملون مع النظام الجديد في الخرطوم وهم يعلمون أن الرئيس السابق مطلوب للمحاكمة في بلادهم, ولست أظن أن هناك نموذجا للاختلاف الموضوعي الذي يرتفع فوق الأشخاص مثلما رأيته لدي أهلنا في جنوب الوادي!
ثالثا: إنني ألاحظ في ضيق وحسرة أن الاختلاف في الرأي قد تحول في السنوات الأخيرة إلي مباراة في الهجوم الشخصي والابتعاد تماما عن الدفوع الموضوعية والتركيز فقط علي تجريح صاحب الرأي الآخر وإهانته وتسفيه مقولته حيث يضيع جوهر القضية في زحام التنابذ بالألقاب والتراشق بالشتائم حتي تبدو معاول الهدم أكثر بكثير من أدوات البناء, وهو أمر يؤكد أننا لم نتعلم الحوار الديمقراطي ولم نسمع عن شيء اسمه ثقافة الاختلاف.
رابعا: إن البشرية اختلفت حول الأديان والعقائد والأفكار الكبري والزعامات التاريخية لأن الحياة تقوم علي مبدأ التنميط وتتأسس علي فلسفة الاختلاف, فلم يتفق الناس جميعا علي نبي أو رسول بل إن منهم من اختلف علي الذات الإلهية نفسها فألحد وتمرد وأسرف علي نفسه وعلي قومه ولو شاء الله لوحد الأديان ولو أراد ـ سبحانه وتعالي ـ لجعل الناس أمة واحدة ولكن الاختلاف والتعددية والتنوع هي المظاهر الطبيعية للحياة وهي الرموز الباقية لمسيرة البشر, لذلك فإنه من العبث أن يستبد إنسان برأيه أو أن يتشبث بوجهة نظره, وقديما قالوا لا خاب من استشار كما أن رأي اثنين يعلو رأيا فرديا ورأي الجماعة يرتفع فوق الجميع.
خامسا: إن المجتمعات في مراحل تطورها والشعوب في مسيرة نموها تدرك أن هناك فترات يمكن أن نشهد فيها فوضي حرية الرأي حيث يظهر خلالها من يحاولون أن يحققوا في ظروف استثنائية ما عجزوا عن تحقيقه في ظروف طبيعية, بل إن منهم من يسعي إلي استخدام مساحة الحرية في الإثارة الصاخبة والضجيج المفتعل ومخاصمة الحقيقة والابتعاد عن الموضوعية, وهنا نكون أمام خلط واضح بين الحق في حرية الرأي, العبث بحرية الرأي لذلك نطالب الجميع بالتوقف عن هذا النمط التدميري والسعي لتوسيع مساحة الحرية الحقيقية دون تستر علي فساد او إخفاء لخطأ, بل علي العكس نطالب بأقصي درجات الحرية والنقد الموضوعي وكشف الخفايا التي تضر بمصلحة الوطن وتعقب الخارجين علي القانون والقيم والأعراف, شريطة أن يتم كل ذلك في إطار الحرية الكاملة والشفافية التامة التي يجب أن تكون اللغة الجديدة للعصر والسمة البارزة لحرية الرأي والحوار السوي في ظل الديمقراطية الكاملة.. هذه اعتبارات نسوقها من أجل دعوة عاجلة لاحترام روح التعددية وفلسفة التنوع من خلال فهمنا العميق لما نطلق عليه ثقافة الاختلاف.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/4/17/WRIT1.HTM