كلما تأملت واقعنا العربي أدركت للوهلة الأولي أن المشكلات متشابهة وأن طريقة التفكير متقاربة وأن الداء واحد والعلة لا تختلف إنها تشير إلي ثلاثة عناصر تبدو غائبة أو علي الأقل معطلة علي نحو يمارس تأثيره السلبي علي حاضرنا ومستقبلنا, ولا شك أن افتقاد العرب لهذه المقومات الثلاثة قد أدي بنا إلي ما نحن عليه من فقر في الرؤية وافتقاد للإرادة وبعثرة للأولويات, والأمر يقتضي ـ والحال كذلك ـ بعض التفصيل لهذا المثلث الحيوي:-
الرؤية
أصدرت في منتصف التسعينات من القرن الماضي كتابي' الرؤية الغائبة' لأنني اكتشفت ـ مثلما اكتشف غيري ـ أننا لا نري أبعد من موضع أقدامنا فلا نتصور ما هو قادم ولا نستشرف المستقبل ولا نعي أهمية تناول القضايا من خلال نظرة شاملة ورؤية متكاملة تحيط بالمسألة من كافة جوانبها حتي أنه إذا وقفت مجموعة من الأشخاص أمام( الفيل) فقد يقول قائل إنه حيوان له خرطوم كبير ويقول آخر إن له ذيلا قصيرا ويكتفي ثالث بالإشارة إليه كحيوان ضخم, أما من يريد أن يراه من خلال نظرة شاملة فسوف يقول إنه حيوان ينتمي إلي العائلة الثديية ويعتبر من أضخم الحيوانات علي الإطلاق وهو حيوان بري يعيش في الغابات كما أنه مستأنس يتعايش مع الإنسان ويساعده وموطنه الأصلي في جنوب آسيا, ولا زلنا نذكر أيضا القصة الطريفة عندما ذهب أحد الجنود إلي' نابليون' وأسطوله يرسو في ميناء' مارسيليا' لقد قال له الجندي' يا جناب القائد إنني أنا والصف ضابط والضابط نقوم بنفس العمل ولكننا نتقاضي رواتب مختلفة فلماذا هذه التفرقة؟'
عندئذ طلب منه' بونابرت' أن يذهب إلي الميناء وأن يقدم تقريرا عما يراه فعاد قائلا أنه شاهد بعض السفن في الجانب الأيمن من مدخل الميناء فطلب منه القائد أن ينتظر لديه وطلب من صف الضابط القيام بنفس المهمة فعاد قائلا أنه شاهد اربع فرقاطات في مدخل الميناء ذات تسليح مدفعي واضح ووقف عند هذا الحد عندئذ أرسل' نابليون' أحد الجنرلات لتفقد الميناء فعاد قائلا أنه شاهد أربع فرقاطات بريطانية الصنع مجهزة بالمدافع طويلة المدي وأنها تقف علي بعد ميلين فقط من مدخل الميناء وأن لديها اجهزة استطلاع علي سطح كل منها لرصد تحركات الأسطول الفرنسي الذي كان يستعد للتحرك نحو جنوب المتوسط, عندئذ جمع' بونابرت' الرسل الثلاثة ونظر إلي الجندي وقال له هل أدركت الآن لماذا تتفاوت الرواتب بينكم؟ السبب هو أن العقليات والقدرات والخبرات تتفاوت هي الأخري والمهم عندي هو صاحب النظرة الشاملة الذي يملك الرؤية الواضحة, ولابد أن أعترف هنا أننا نحن العرب نفتقر إلي حد كبير لرؤيتنا للمستقبل إذ لا يوجد لدينا مشروع قومي موحد نجتمع حوله ونسعي لتحقيقه وتلك في ظني هي المشكلة الكبري التي نعاني منها وندفع فاتورة غالية ثمنا لها بسبب العشوائية في القرار والارتجال في التفكير فضلا عن قصر النظرة وغياب الرؤية.
الإرادة
مخطيء من يتصور أن عنصر الإرادة هامشي أو أنه نتيجة لسواه فالواقع يقول بغير ذلك لأن الإرادة هي التي تقف وراء القرار الوطني وتدفعه إلي الأمام وتدافع عنه دائما وهي تمثل المتغير المستقل الذي يتبعه غيره, وأنا ممن يظنون أن عنصر الإرادة هو عنصر حاكم في التغيير نحو الأفضل وإذا كان النص المقدس يشير إلي أن الله سبحانه وتعالي لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم فإنني التمس من ذلك الذكر الحكيم ما يؤكد أن إرادة التغيير هي صانعة المستقبل ولعل قصور الإرادة القومية هو المسئول عن حالة التردي العام علي الساحة العربية, ونحن نعتقد بحق أن الانتصار إرادة عقلية وأن الهزيمة إرادة عقلية مثلما أن التفوق قرار عقلي والفشل أيضا, والأمم التي تمتلك إرادة واضحة هي القادرة علي صنع التغيير وتوجيه شعوبها نحو غاياتها الوطنية وأهدافها الكبري بل إنني أضيف إلي ذلك أن التقدم العلمي يقوم علي الإرادة الذكية الساعية إليه والراغبة فيه كما أن غياب الإرادة يؤدي إلي حالة الإخفاق الوطني والركود القومي, وأقول هنا أن الإرادة وحدها هي القادرة علي تحقيق الرؤية التي تراها المجتمعات حلمها الحقيقي وأملها الأصيل.
الأولويات
إن الفارق بين شخص وآخر يكمن في القدرة علي التمييز بين المهم والأهم كما أن الأمر يمتد إلي ما هو أكثر من ذلك ليصل إلي جدولة الذهن البشري وترتيبه وكثيرا ما نتابع حوارات سياسية أو مناقشات ثقافية ونندهش كثيرا للأولويات المطروحة فهناك من يري من النقاط الفرعية ما يسبق القضايا الكبري وهذا عوار فكري واضح يدل علي أن صاحبه لا يملك الحد الأدني من فهم مناهج البحث العلمي الصحيح ولعلنا لا نختلف في أن كبار المفكرين والقادة السياسيين العظام قد حققوا غاياتهم العظمي وأهدافهم الأساسية من خلال الأخذ بترتيب ذكي للأولويات ولم يسمحوا للمسائل الفرعية أو الأمور التافهة أن تستغرق جهدهم أو تسرق اهتمامهم, ونحن نشعر أحيانا بعجز الآخرين عن التفكير السليم نتيجة وجود مفاهيم انقلابية لديهم تجعلهم يضعون العربة أمام الحصان وليس العكس كما أنهم قد يصرفون الجهد الكبير لتحقيق الهدف الصغير ولا يعطون الغاية النهائية حقها من الاهتمام والدراسة فتأتي قراراتهم مرتجلة ومواقفهم منقوصة لأنهم ببساطة لم ينجحوا في وضع ترتيب منطقي لأولوياتهم, وكأننا أمام شخص عاري الجسد ويطلب رباط العنق بدلا من تركيزه علي ما يستر عورته أولا ويغطي جسده ثانيا ليبحث بعد ذلك في تناسق ملبسه وأناقة مظهره.
.. هذه قضايا ثلاث تبدو حاكمة في تشكيل العقل الإنساني عموما والعربي خصوصا, فما من مشكلة تحيط بنا أو أزمة تواجهنا إلا ونكتشف أن هذه العناصر الثلاثة تقف وراءها فالأمة التي لا تملك الرؤية وتفتقر إلي الإرادة ولا تدرك أولويات مسيرتها لن تتمكن من أن تضع أقدامها الثابتة علي خريطة العالم المعاصر بل وسوف تسمح لغيرها بأن يعبث بمقدراتها, وأن يعطل مسيرتها وأن ينال من مستقبلها.. إنها همسة حق لأمتنا العربية في فترة من أصعب فترات تاريخها الحديث وأشدها وطأة علي شعوبها التي تنزف دما وتعاني ألما وتنتفض غضبا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/3/20/WRIT1.HTM