ذلك شعارنا الذي رددناه علي امتداد الشهور الأخيرة إيذانا بميلاد الدولة العصرية علي الأرض المصرية.
ولقد ظل الشعار الشهير الذي رفعته جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية وفي غيرها من المناسبات الجماهيرية هاجسا يؤرق ضمائر كثير من المسلمين وهم يرون دينهم المقدس شعارا مرفوعا يدركون معه خطورة استخدامه لفصيل سياسي معين دون غيره, وكأن ذلك الفصيل يستأثر وحده بالإيمان المطلق بذلك الدين الحنيف ويحتكر دون غيره شعارا يضم زخما روحيا يستهوي المتدينين ويثير لدي الناس نوازع تؤكد ذلك الخلط الواضح بين الدين والسياسة ويكرس المحاولة المتعمدة لتطويع المقدسات لخدمة السياسات, وإذا كانت ثورة1919 في مصر قد رفعت شعار' الدين لله والوطن للجميع' فإنها كانت تشير من طرف خفي إلي مفهوم المواطنة الذي نراه بحق ذا دلالات إنسانية وأخلاقية وسياسية بل ودينية, فكلمة' المواطنة' مستمدة من كلمة وطن بكل ما تحمله من معاني الارتباط بالأرض والانتماء للشعب والمشاركة في سلطة الحكم وفقا للتعريف التقليدي لكلمة' الدولة' في القانون الدولي, فـالمواطنة' بهذا المعني هي منظومة من القيم والمشاعر والانتماءات تكرس معني المساواة وتحترم مفهوم التعددية وتسقط الفوارق المتصلة بالدين أو الجنس أو الأصل بين البشر بغير استثناء, إن' المواطنة' تشمل المسلم والمسيحي وغيرهما من أصحاب العقائد الروحية, كما تشمل الرجل والمرأة في دلالة عصرية علي نضج المجتمعات وبلوغها سن الرشد, وهي تشير أيضا إلي الحقوق المتكافئة للأغنياء والفقراء معا بما يحمله ذلك من إشارات قانونية وأخلاقية تجاه قضية العدالة الاجتماعية التي لن نتوقف عن الإشارة إليها ولن نمل في التأكيد علي ضرورة رسوخها, فالمواطنة' بهذا المعني تضم جوانب سياسية واقتصادية وثقافية, ومعناها أوسع وأشمل من أن تختزل في واحد من أبعادها دون غيره, وإن كنا نظن أن السياق الذي ظهرت فيه والظروف التي أبرزتها تبدو مرتبطة بالبعد الديني قبل غيره, فأنا ممن يعتقدون أن شهادة ميلاد' المواطنة' في مصر لم تصدر عام2006 أو2007 ولكنها صدرت عامي1918 و1919 عندما تحركت جماهير الشعب في اندماج كامل وروح فريدة تضرب بشدة الشعار الاستعماري العتيق' فرق تسد' وتؤكد التحامها وتثبت وجودها وترفع الوحدة الوطنية شعارا لا يعلوه سواه, ولنا في هذا المقام عدد من الملاحظات نوجزها فيما يلي:
أولا: إن مبدأ' المواطنة' الذي سوف يتصدر المادة الأولي في التعديل الدستوري المنشود ليس فكرة محلية أو شعارا داخليا ولكنه إطار فلسفي لمفهوم مؤسسي قابل للتطبيق في كل الأمم وجميع الشعوب, وهي لا ترتبط بالتعبير القانوني المتصل بـالجنسية' وحده ولكنها تتجاوز ذلك إلي معني أوسع وأشمل بحيث يضم مظلة الانتماء الأكبر, لذلك فإن الحديث عن المواطنة العربية لا يتعارض مع مبدأ المواطنة المصرية, فالكلمة تتجه إلي جذورها الأولي قومية كانت أو وطنية, وتشير إلي الارتباط بالأرض إقليمية هي أو محلية.
ثانيا: إن مبدأ' المواطنة' لا يتعارض مع العقائد الدينية أو المشاعر الروحية ولكنه لا يوظفها في خدمة غايات سياسية معينة ولا يستثمرها طلبا لاستثارة عواطف المؤمنين علي اختلاف اتجاهاتهم, وبهذا المعني فإن المواطنة ليست مرادفا لـ العلمانية ولكنها نقيض للدولة الدينية وتأكيد للشخصية' المدنية' بمعناها العصري ومفهومها الحديث.
ثالثا: إن' المواطنة' تحمي التعددية ولا تفتئت عليها أو تنال منها إنها تحمل دلالات ذات طابع يؤمن بحق الاختلاف وميزة التنوع ويدرك أن المجتمعات أحادية التكوين أضعف بكثير من تلك التي تضم جميع الرؤي ومختلف المشارب وتتحمل تنوع الاتجاهات, فالمواطنة بهذا المعني تنتقل من مرحلة( تحالف قوي الشعب العاملة) إلي مرحلة( اندماج قوي الوطن الفاعلة) مع إسقاط كل أسباب الفرقة وعوامل الانقسام والاعتراف بالتعددية مهما يكن مصدرها أو تتباين درجاتها.
رابعا: إننا عندما نقول إن' المواطنة هي الحل' فإننا لا نجري قياسا علي شعار' الإسلام هو الحل' ولكننا نعفي الوطن من مخاطر الفرقة وعوامل الانقسام, فمصر لكل أبنائها, وقد قال' سعد زغلول' أن شعار ثورته عام1919 هو( مصر للمصريين) والذي صدر في غماره دستور1923 بما يحمله من رؤي متقدمة عن عصره سابقة لزمانه مع إيحاءات ليبرالية واضحة, ونحن نعود الآن إلي ذلك المخزون الوطني لنجعل من' المواطنة' شعارا يرتفع فوق الطوائف الدينية والأصول العرقية والطبقات الاجتماعية ويحتوي الجميع وكأنما' الكل في واحد'.
خامسا: إن الإصلاح الدستوري الذي تشهده البلاد ويجد صداه عربيا ودوليا إنما يجسد مرحلة فاصلة في مفهوم الدولة المدنية العصرية التي تحترم الدين وترتفع به عن مهاترات الحياة السياسية اليومية, فلقد ثبت لنا أن كل محاولة لدمج الدين في السياسة أوإقحام السياسة في الدين تكون غالبا علي حساب العقيدة الدينية ومكانتها السامية, فالدين علاقة إيمانية بين العبد وخالقه ولا يجب الهبوط بها إلي ساحة الجدل السياسي والمكابرة الحزبية مهما تكن الأسباب والدوافع, وذلك لا يلغي بالطبع اعترافنا بثراء الشريعة الإسلامية, ولا يتعارض مع التمسك بمبادئها مصدرا رئيسيا للتشريع, ونحن نعلم أنه يجري تدريس تلك الشريعة الغراء في كليات الحقوق في معظم جامعات العالم بغض النظر عن الديانات والمذاهب لأنها خطوة متقدمة كثيرا علي شريعة' حامورابي' وبعض فصول' القانون الروماني', فضلا عن جوهرها الروحي الرصين حتي أن المجموعة المدنية الفرنسية المسماة بـ'كود نابليون' قد تأثرت بها وأخذت عنها في الربع الأول من القرن التاسع عشر, ويكفي أن نتذكر أن فقيها قبطيا لامعا هو الدكتور' شفيق شحاتة' قد تولي تدريسها في جامعة' باريس'.
.. هذا طواف سريع بموضوع حيوي لابد أن نشير إليه دائما وأن نتحدث عنه في وضوح لأنه يقدم شهادة التأمين الحقيقية للمجتمع العصري السليم الذي يحترم المقدسات ويرتفع بالأديان ويسقط جميع الفوارق بين الملل والنحل والمعتقدات, إننا نري أن شعار' المواطنة هي الحل' يجب أن يرتفع في سماء الوطن يردده المسلمون والمسيحيون علي السواء, والرجال والنساء بلا تفرقة, والفقراء والأغنياء معا لأنه يحدد مفهوم الانتماء ويضمن للوطن معني الولاء.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/3/6/WRIT1.HTM