ما أكثر ما يفد إلينا من تعليقات القراء وآراء الباحثين حول ما نكتب في' الأهرام' وغيرها, ولا شك في أن الحوار المتبادل هو الهدف الرئيسي من كل ما نكتب, وإلا فما هو جدوي الكتابة؟ ولقد وصلتني أخيرا رسالتان من اثنين من المثقفين أحدهما رجل دين, والثاني مفكر مرموق, وتدوران حول مقالي المنشور تحت عنوان' العلوم والفنون والآداب,' وقد رأيت أن أشرك القراء معي في الاستمتاع بهما, ولقد وردت الرسالة الأولي من الدكتور القس' عبد المسيح اسطفانوس' الأستاذ بكلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة وفيها يقول:
'أتابع باهتمام كبير كتاباتكم المتميزة سيما بـالأهرام كما أتابع بقدر المستطاع إسهاماتكم في اللقاءات التليفزيونية المختلفة سواء في البرامج المحلية أو الفضائيات, وأننا نشكر الله لأجل الدور الرائع الذي تقومون به. وقد أعجبت كثيرا بمقالكم المنشور بـ الأهرام بتاريخ23 يناير بعنوان' العلوم والفنون والآداب' وتوقفت طويلا أمام عبارات بعينها, ومنها علي سبيل المثال' لايتصور أحد أن تقدم الأمم واندفاع الشعوب إلي الأمام مرهون فقط بالبحث العلمي دون الاهتمام بالآداب والفنون.., ولقد ذكرني حديثكم بأنه في دراستي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في بداية الخمسينيات كنا جميعا في جميع العلوم بمختلف التخصصات, والآداب بمختلف الفروع نتلقي محاضرات في تاريخ الفلسفة كمادة أساسية إجبارية للجميع, بل كانت هناك مادة دراسية هي فلسفة الدين'Philosophy'ofReligion وكان يقدم لنا المحاضرات فيها الأستاذ جون س. بادو الذي كان مديرا للجامعة, وعاد لبلادنا في الستينيات سفيرا لأمريكا بمصر, ولما لم يسترح لسياسات بلاده ترك السلك الدبلوماسي! ومازلت أحتفظ بكتاب, فلسفة الدين الذي كان مرجعا لهذه الدراسة وعنوانه'Realistic'PhilosophyofReligion وكان منطلق هذه الدراسة دافع' الغيرية'Altruism( أي التخلص من الأنانية, والرغبة في خدمة الآخرين دون أي اعتبارات), كما أنني وأنا أقرأ مقالكم القيم تذكرت أيام أن كنت أدرس للدكتوراه في برنستون وقدمت الدعوة لعالم برنستون الشهير' اوبنهايمر' الذي يعتبر ابو القنبلة الذرية لإلقاء محاضرة في إحدي الليالي, ودارت مناقشة مثيرة بعد المحاضرة, وكان العنصر الأساسي فيها هو ضرورة التوازن بين العلم والدراسات الأدبية والفنون والمباديء الأخلاقية, فالعلم بمعزل عن الدراسات الأدبية وكل ما يتعلق بها يمكن أن يؤدي بالإنسان لأن يدمر نفسه بنفسه, ومرة أخري أكرر الشكر لأجل مقالكم الرائع, بل لأجل كتاباتكم التي تضيء السبيل لحياة أفضل ومشاركة متوازنة لخير بلادنا وتقدمها, وفقكم الله ورعاكم'.
أما الرسالة الثانية فقد وصلتني من الأستاذ الجامعي المرموق د. ماهر شفيق فريد الأستاذ المتفرغ للأدب الإنجليزي بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة وقد جاء فيها:
أثارت مقالتك القيمة' العلوم والفنون والآداب' في أهرام الثلاثاء23 يناير2007 سلسلة من الخواطر أرجو أن تأذن لي بأن أتقاسمها معك ومع قرائك هنا. إن تأكيدك' العلاقة التبادلية بين العلوم والآداب والفنون في عصر لا يعرف الخطوط الفاصلة بينها ـ لأنها تتقاطع في مساحات مشتركةـ' يذكرني' بمعركة الثقافتين' التي شب أوارها في بريطانيا ـ ومنها انتقلت إلي أقطار أخري ـ حين ألقي السير' تشارلز بيرسي سنو', وهو عالم كيمياء وطبيعة وروائي وناقد, محاضرة في جامعة' كمبردج' عام1959 نشرت في ذلك العام ذاته. وفيها أقام مقابلة بين ثقافة' المثقفين من الأدباء' وثقافة' العلماء وعلماء الطبيعة بخاصة' ذاهبا إلي أن ثمة هوة متزايدة الاتساع لا تفتأ تنفرج زواياها بين هذين الفريقين, وأنهما صارا الآن ـ كالأغنياء والفقراء في رأي' دزرائلي' ـ أمتين منفصلتين عاجزتين عن التواصل. فكم من الأدباء اليوم يعرف القانون الثاني للديناميكا الحرارية؟ وكم من العلماء يستطيع أن يروي لك حبكة إحدي مسرحيات' شكسبير' رواية صحيحة؟ وقد تصدي له ـ من معسكر الإنسانيات ـ الناقد الأدبي' ف. ر. ليفيس' المعروف بصرامته وشدته, فحاول أن ينقض دعواه, ودخل حلبة النقاش أدباء ونقاد وعلماء ومفكرون كبار مثل' أولدس هكسلي' و'لايونيل ترلنج' وغيرهما. وقد انتقلت إلينا أصداء هذه المعركة الفكرية فكتب' العقاد' العظيم عنها مقالا في مجلة' الأزهر'( أبريل1960) عنوانه' عود إلي الثقافتين', وكتب عنها' مرسي سعد الدين' علي صفحات مجلة' المجلة', وكتب د.' زكي نجيب محمود'' اللغة ملتقي الثقافتين' في كتابه' في تحديث الثقافة العربية'( دار الشروق1987) وترجم د.' صالح جواد الكاظم' محاضرة' سنو' تحت عنوان' الثقافتان الأدبية والعلمية ونظرة ثانية'( دار الجاحظ بغداد1982), كما وضع د.'رمسيس عوض' كتابا كاملا في هذا الموضوع' س.ب. سنو والثورة العلمية'( الهيئة المصرية العامة للكتاب1981). وقد قال' زكي نجيب محمود' في تشخيص الداء:' العلمي' لا يريد أن تكون له صلة بالأدب علي ظن منه أن الأدب من شأن دارسي الآداب و'الأدبي', يفزع إذا أبصرت عينيه أو وقع علي أذنيه أي شيء فيه رائحة العلوم الطبيعية أو الرياضية, في حين أن أهم شرط يجب توافره في أي إنسان يريد لنفسه أن ينخرط في زمرة المثقفين كثر نصيبه من ذلك أو قل, هو أن يكون ـ بين صفات أخري ـ علي دراية متخصصة في موضوع ما ثم يكون في الوقت نفسه علي دراية هيكلية باتجاهات الموضوعات الأخري التي لا تقع في اختصاصه ويتولاها عنه آخرون'. وقال' العقاد' في تكامل العلوم والآداب' لن تتم في مجتمع من المجتمعات ثقافة عالية جديرة بأن تسمي ثقافة إنسان ما لم تكن ثقافة شاملة يتم بها قوام' الشخصية الإنسانية' بريئة من داء الفصام موفورة الحظ من الضمير والجسد ومن العلم والأدب ومن مطالب الأذواق ومطالب العقول'... لقد غلبت علي عصرنا ثقافة الصورة والإبهار والتسطيح ـ تعينها علي ذلك مغريات وسائل الإعلام مقروءة وسمعية وبصرية ـ وتراجعت حدود العلم واتسعت مساحات الجهل, وافتقد الشباب ـ إلا فيما ندر ـ القدوة من رجال الأدب والعلم والفكر. يؤسفني أن أختم رسالتي بهذه النبرة المتشائمة, ولكن الرائد لا يكذب أهله, وتشخيص الداء ـ بلا مواربة أو تهوين ولا تهويل ـ هو أول خطوة نحو وصف الدواء والشروع في المداواة'... تقديري للرسالتين وصاحبيهما.. إنهما حقا متعة الحوار الثري مع من يملكون ناصية المعرفة وأدوات التفكير ومناهج البحث, فشكرا لمن كتب وتحية لمن قرأ.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/2/20/WRIT1.HTM