تعكس التعديلات الدستورية الجديدة الواقع الذي تعيشه البلاد بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاما من صدور دستور عام1971 لذلك فإن هذه التعديلات تأتي بالحذف والإضافة وربما بالتغيير الكامل لبعض المواد الحاكمة في دستورنا المؤثرة في حياتنا, فالمواطنة تأتي بديلا لتحالف قوي الشعب العاملة وهي تعكس المناخ المعاصر الذي يري أن المواطنين والمواطنات متساوون جميعا في الحقوق والتكاليف والواجبات دون النظر للجنس أو الأصل أو العقيدة أو الدين, فالمواطنة تعني المساواة في المراكز القانونية لأبناء الوطن الواحد مع إسقاط كل الاعتبارات التي لا تعكس روح القاعدة القانونية بعنصريها العمومية والتجريد, كما أن الدستور الجديد إذ يضيف قانونا جديدا لمكافحة الإرهاب وتعديلات أخري جوهرية أهمها ما يمس المواد74 و76 و88 والتي لا أنكر أن بعضها مثير للجدل وفاتح لشهية الحوار الوطني بين جميع القوي والاتجاهات, ولكن ذلك ليس هو موضوع هذه السطور, فالذي أزعجني هو ما تردد في بعض الأوساط من أن حذف بنود الدستور المتصلة بالاشتراكية والقطاع العام والتخطيط المركزي والمدعي العام الاشتراكي وغيرها من مظاهر ستينيات القرن الماضي إنما هي ردة عن تكريس قضية العدل الاجتماعي وتراجع عن مفهوم دولة رعاية الفقراء, وكأننا بصدد تعديلات دستورية تخدم الأغنياء وتنحاز لأصحاب الثروات وتسقط من حسابها البعد الاجتماعي الذي حرص عليه رئيس الدولة في كل المناسبات, بل يزيد دعاة هذا الرأي أن الدستور الجديد سوف يولد بين يدي رجال الأعمال وكأنه وثيقة تحمي الثراء والأغنياء ولا تهتم بالفقر والفقراء, ويحدث ذلك كله في بلد يعيش فيه الملايين من محدودي الدخل في العشوائيات وفي ظل ظروف اجتماعية واقتصادية خانقة, لذلك فإننا نطرح اليوم تعبير العدالة الاجتماعية ومواجهة الاستغلال مع التركيز علي حال الطبقات الأكثر عددا والأشد فقرا لكي نضع الأمور في نصابها حتي يكون دستور البلاد ترجمة حقيقية لأحوال العباد, وأنا أتقدم هنا بالملاحظات التالية:
أولا:إن الأغلب الأعم من رجال الأعمال المصريين ينتمون بشدة للمدرسة الوطنية المصرية, كما أن القطاع الخاص المصري صاحب اسهامات مشهودة في العمل الاجتماعي وتعزيز مبدأ التكافل وتقديم خدمات ملموسة في بعض القطاعات خصوصا التعليم والصحة ولكننا لا نتغافل أيضا عن حقيقة أخري وهي أن السواد الأعظم من المصريين والمصريات هم من محدودي الدخل وأن سكان العشوائيات يشكلون نسبة لا بأس بها من مجموع سكان الدلتا والوادي في حزام يحيط بالعاصمة والمدن الكبري وينذر بانفلات محتمل قد يؤدي إلي نتائج غير محمودة, وهو ما يعني أن الذي يصيغ دستورا أو يضع سياسة لهذه الدولة فإن عليه أن يضع نصب عينيه هذه الحقيقة دائما.
ثانيا: لقد عاصرت وبرؤية مباشرة إصرار الرئيس' مبارك' ـ من خلال مفاوضات شاقة ومضنية استمرت لعدة سنوات مع صندوق النقد الدولي ـ علي مراعاة البعد الاجتماعي للاتفاق المطلوب وحرصه علي ألا تتحمل الطبقات الفقيرة عبء الشروط التي يطالب بها الصندوق وتمسكه بمواصلة دعم الدولة للسلع الرئيسية والخدمات الأساسية لأطول مدة ممكنة رعاية لمحدودي الدخل وتأكيدا للتوازن بين الطبقات وتعزيزا للحد الأدني من مفهوم العدالة الاجتماعية.
ثالثا: إن تيارات سياسية بعينها تتخذ أحيانا من الدين غطاء لها وهي تحاول استثمار معاناة الفقراء وظروفهم الصعبة لكي تتسلل إلي أعصاب المجتمع وأطرافه المؤثرة سياسيا وثقافيا واجتماعيا وهو أمر يلزم واضعي التعديلات الدستورية أن يأخذوا في الحسبان ذلك التوجه الذي حصد في السنوات الأخيرة' بالتصويت العقابي' ما لم يكن يتوقعه.
رابعا: إن الدستور' أبو القوانين' وهو الوثيقة التشريعية العليا تنعكس مبادئه علي فلسفة القانون السائد, وكذلك الروح التي يطبق فيها فضلا عن المناخ المحيط بها لذلك فإنه يتعين علينا أن نراعي تماما الكلفة الاجتماعية لسياسات الدولة المستمدة من تشريعاتها وفي مقدمتها دستور البلاد واضعين في الاعتبار أننا لا نغير كل عام دستورا ولا نمس تلك الوثيقة الرفيعة إلا علي فترات متباعدة تستلزم أن يكون واجبا علي البرلمان المصري ـ وهو يرفع النصوص الخاصة بالفلسفة الاشتراكية ـ الدفع بنصوص بديلة ترسخ العدالة الاجتماعية وتراعي أحوال من لا يملكون في المجتمع المصري.
خامسا: واهم من يظن أن الدستور يرتبط بظروف معينة يتفاعل معها ويحسب لها دون أن يفكر في مستقبل بعيد المدي يحفل بالتطورات وقد يستلزم بعض التدابير والاجراءات حتي يصبح المجتمع المتوحد قادرا علي حل مشكلاته ومواجهة المواقف الطارئة بثبات كامل ورؤية شاملة وقدرة علي التكيف بين العام والخاص, ولست أظن أن هذا الأمر يغيب عن تفكير من يتصدي لأكثر العمليات التشريعية سموا وتقديرا, من هنا فإن الدستور المعدل يجب أن يحقق التوازن بين السلطات الثلاث وبين الفرد والدولة وأن يطلق آليات المجتمع المدني للإسهام في الارتقاء بنوعية الحياة وأساليب التفكير العصري, الذي لا يتجاهل معاناة الفقراء ويدرك أننا نريد مجتمعا سويا ينعم فيه الجميع بما في ذلك الأغنياء!
.. هذه رؤيتنا الموجزة للعلاقة الارتباطية الشديدة بين روح الدستور وقضية العدالة الاجتماعية خصوصا وأن حديثا يدور في بعض الأروقة ولغطا يتردد في مناسبات متناثرة يتباكي علي العصر الاشتراكي ويحذر من أن يعكس الدستور المعدل محاولات التزاوج بين السلطة والثروة علي نحو يفجر ارهاصات التوتر الطبقي, ويحيي بعض مظاهر الصراع المجتمعي, ونحن ندرك يقينا حرص الرئيس المنتخب في استفتاء حر مباشر علي مراعاة هذا البعد الإنساني وفهمه العميق لأبعاده السياسية والاجتماعية, لذلك فإنني أطالب صراحة بحقوق متكافئة تترك للقوانين المكملة للدستور والتشريعات التالية لها ترسيخ مباديء أساسية في مقدمتها منع الاحتكار ومكافحة الاستغلال ومراعاة الظروف الصعبة التي تمر بها معظم شرائح المجتمع المصري وإلا أصبحنا أمام ما يطلق عليه البعض' دستور الأغنياء' أو' دستور رجال الأعمال' أو' دستور حماية القطاع الخاص', وأنا أظن أن التوجه العام ـ من خلال كل المناقشات الحزبية والبرلمانية التي شاركت فيها ـ يبدو غير ذلك تماما لأننا نرفع شعارا جديدا يحتوي الجميع تحت مظلة تغطي الكنانة بأكملها وهي مظلة المواطنة التي لا تفرق بين الرجال والنساء أو المسلمين والأقباط أو الأغنياء والفقراء.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/2/6/WRIT2.HTM