عجيبٌ هو أمر الحكام، فقد يشتد طغيانهم، ويقوى استبدادهم، ولكنهم يحتفظون فى الوقت ذاته بمسحة إنسانية ظاهرية مع رقة طارئة وقدرة على خلق انطباع إيجابى لدى من يتعامل معهم.
ولقد رأيت عن قُرب حكامًا عربًا من طراز (صدام حسين)، ونوعية (حافظ الأسد)، وقد كان هذا الأخير يتحدث بصوت خفيض يكاد يلامس الأذن فى خجل وتواضع، ولا يتصور أحد على الإطلاق أن ذلك هو (حافظ الأسد) الذى يرتعد أمامه السوريون، ويخشاه العرب، ويعمل له الغرب حسابًا أيضًا، ولا يتوهم المرء أن ذلك الرجل الهادئ الذى يهوى الحديث فى التاريخ لعدة ساعات أمام زوَّاره هو نفسه رئيس (سوريا) أثناء مذبحة (حماه) فى مطلع ثمانينات القرن الماضى.
بدأت أردِّد بصوت مرتفع عبارات الشكر للرئيس العراقى، ولا أعرف كيف أتصرَّف، بينما الرئيس (مبارك) مستغرق فى الضحك، ومعه أعضاء الوفد المصرى الذين فاجأهم تصرف الرئيس العراقى
نعود لـ(صدام حسين) وزياراتنا المتكررة إلى (بغداد) فى صحبة الرئيس الأسبق (مبارك)، وكيف كان يبدو (صدام) شديد التواضع والبساطة إلى حد أنه كان يقوم بوضع العباءة على كتفى الرئيس (مبارك) وإلباسها له ترحيبًا وتقديرًا.
وذات يوم كنا على مائدته الرئاسية، وعن يمينه أقطاب نظامه ورموزه، وعن يسار الرئيس (مبارك) أعضاء الوفد المصرى، وأنا أصغرهم باعتبارى سكرتيرًا للرئيس. وكان الرئيس الأسبق (مبارك) يداعبنى أحيانًا بشهرتى فى حب فاكهة البطيخ، فقال لى بعد أن فرغنا من تناول الطعام: (لماذا لم تأكل بطيخًا يا مصطفى؟!)، فابتسمت صامتًا، فإذا بالرئيس العراقى يقف حاملاً طبق البطيخ فيقف كل الوفد العراقى معه ويصيح قائلًا: (هل يبغى الدكتور بطيخًا ها هو)، فأسقط فى يدى، وأصابنى ارتباك شديد للموقف المفاجئ، وبدأت أردِّد بصوت مرتفع عبارات الشكر للرئيس العراقى، ولا أعرف كيف أتصرَّف، بينما الرئيس (مبارك) مستغرق فى الضحك، ومعه أعضاء الوفد المصرى الذين فاجأهم تصرف الرئيس العراقى، وكأن (صدام حسين) الذى ملأ الدنيا، وشغل الناس، يأتى لأحد أعضاء الوفد المصرى محاولاً تقديم فاكهته المفضَّلة بنفسه. هل يمكن أن يكون ذلك هو (صدام حسين) الذى كان ينفذ أحكام الإعدام بيده، والذى تغيَّرت بسببه خريطة المنطقة بعد غزوه لـ(الكويت)؟!
بعد الغداء ذهبنا إلى قاعة مجاورة لبدء المباحثات المشتركة بين الوفدين برئاسة الرئيسين (مبارك) و(صدام)، وبعد دقائق قليلة من بدء المباحثات فوجئنا بـ(صدام) ينتصب واقفًا ويتجه إلى النافذة محاولاً تحريك الستارة قائلاً: (إن أشعة الشمس مركزة على الدكتور أسامة الباز)، وأنه يحرك الستارة فى وضع يحميه منها. ولقد كان ذلك تصرفًا بالغ الرقة من حاكم يخشى الناس مجرد سماع اسمه احتفاءً بالوفد المضيف وبشخص (أسامة الباز) الذى كان محل احترام الجميع. وقد تأثرنا بتلك التصرفات الناعمة التى لا تدل على شخصية ذلك الحاكم الجبار، وأدركنا أنه يوجد وجه آخر لا يعرفه الناس عن الحكام مهما اشتد بأسهم، وخشى الناس بطشهم! بل إننى مازلت أتذكر أن (صدام حسين) عندما جاء إلى (القاهرة) زائرًا طلب أن يرى بواب العمارة التى كان يسكن فيها أثناء إقامته فى العاصمة المصرية لاجئًا سياسيًّا، وقد اندهش البواب العجوز وتساءل هل وجد (صدام حسين) عملاً؟! فقد كان البواب يقرضه -كما قال (صدام) نفسه- بعض النقود فى آخر الشهر حتى يتسلم اللاجئ العراقى راتبه من الإدارة المعنية فى رئاسة الجمهورية العربية المتحدة فى عهد الرئيس الراحل (عبدالناصر)، ولابُدَّ أن أعترف هنا بأن معاملة (صدام حسين) للمصريين العاملين فى (العراق) كانت تتَّسم بالمودة والمحبة، وكان العراقيون يدركون أن المصريين العاملين فى العراق -وقد كانوا بالملايين- يتمتعون بحماية الرئيس (صدام) شخصيًّا؛ لأنه عاش بينهم فى بلدهم حتى ظل إلى نهاية عمره يحمل أجمل الذكريات للقاهرة وللشعب المصرى عمومًا.. إن الحكام خلف الكواليس هم بشرٌ مختلفٌ عن أولئك الذين نراهم على شاشات التلفزيون وصفحات الصحف، فالإنسان هو الإنسان مهما علا قدره وارتفع شأنه.
مجلة 7 ايام
3 مايو 2017
https://www.7-ayam.com/%d8%b5%d8%af%d9%91%d9%8e%d8%a7%d9%85-%d9%8a%d9%8f%d8%ad%d8%b1%d9%91%d9%90%d9%83-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d8%a8%d9%86%d9%81%d8%b3%d9%87-%d9%84%d9%8a%d8%ad%d9%85%d9%89/