عندما نتحدث عن صدام حسين فإننا لا نتناول سيرة الرجل فذلك آخر همنا ولكن الذي يعنينا هو مجموعة العظات والعبر التي يجب أن يخرج بها العرب ـ حكاما ومحكومين ـ من ملف ذلك الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لعدة عقود ولعلنا نتفق جميعا علي أن نهايته المأساوية جاءت خاتمة لحياة صاخبة فيها من ضجيج المعارك وعنف الدكتاتورية ما امتلأت به أروقة المنظمات الدولية وزنازين السجون الأسطورية والقصص الدامية عن التعذيب والمقابر الجماعية ونحن هنا لا ندافع عن صدام من منطق طائفي ولا ندمغ عصره من منطلق سياسي بقدر ما نحلل الظاهرة ونقف أمام محطاتها بدءا من نقطة النهاية وصولا إلي محطة البداية ونستعرض ذلك في النقاط التالية:-
أولا:- إن المشهد الأخير في حياة صدام حسين سوف يظل عالقا في ذاكرة الأمة لأن جلاديه قد اختاروا لنهايته أسلوبا مشابها لما كان يتبعه هو مع خصومه وهو ما يعني أن الجميع في خندق واحد حيث التصرفات الهمجية والإجراءات البربرية والمواقف التي تدمغ أصحابها إلي يوم الدين وعلي كل حال فإن الحمقي الذين أعدموه بهذه الطريقة قد قدموا له أكبر خدمة في تاريخه علي نحو غطي علي بعض جرائمه ووضعه لدي الكثيرين في مصاف الشهداء بل وأكسبه تعاطف الملايين ممن كانوا يرفضون سياسته ويدينون حكمه ولا شك أن رباطة جأش ذلك المغامر الغريب وقوته المعنوية في غرفة الإعدام والهتافات الفوضوية ضده والتي لم تحترم جلال الموت قد أعطت اسم صدام حسين رصيدا كبيرا ربما لا يستحقه!
ثانيا:- إن مقارنة سريعة بين نهاية' صدام حسين' ونهاية شاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي تضع يدنا علي الاختلاف بين مزاج الشعوب وطبيعة المجتمعات فقد استقبل الرئيس المصري الراحل أنور السادات شاه إيران بعد أن لفظته عواصم الدنيا وتنكر له أسياده وحلفاؤه ولكن الرئيس المصري عالجه برعاية كاملة في مرض الموت وشيع جنازته رسميا ودفنه مع ملوك مصر أصهار ذلك الشاه صاحب' السافاك' وأجهزة التعذيب الحديثة والجرائم المشهودة ضد الشعب الإيراني وهو الذي أمد الدبابات الإسرائيلية بالبترول الإيراني لتحارب العرب في المواجهات المسلحة وكان معاديا بطبيعته للروح الإسلامية كارها للشخصية العربية أما' صدام' الذي يمكن أن نقول فيه ما نشاء وأن نعدد جرائمه ولكنه يظل في النهاية أحد مظاهر المواجهة مع الغرب والتصدي لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية والانتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني فقد كانت هذه نهايته وأنا هنا لا أحاول تبييض صفحة' صدام حسين' فهو دكتاتور قاتل جر شعبه العراقي وأمته العربية إلي ما نحن عليه الآن.
ثالثا:- إن المزاج العراقي قد ارتبط تاريخيا بقدر كبير من الخشونة والعنف بل إن حكام العراق في العصر الحديث لم ينل منهم نهاية طبيعية أي دون القتل إلا' عبد الرحمن عارف' و'أحمد حسن البكر'' ففيصل الثاني' و'عبد الإله' و'نوري السعيد' انتهوا بالقتل والسحل في شوارع بغداد و'عبد الكريم قاسم' أعدم رميا بالرصاص في مذبحة مصغرة داخل قاعة ضيقة أما' عبد السلام عارف' فقد كانت نهايته في سقوط طائرة بحادث غامض لا يخلو من شبهات القتل المتعمد وها هي نهاية' صدام حسين' تؤكد من جديد أن العراق لم يهدأ بعد بل يبدو لي أنه ربما لا يهدأ أبدا فالشعب الذي عرف المقابر الجماعية يعرف أيضا الإعدامات العلنية وهي أمور لا تتفق مع العمق الحضاري لبلد الرافدين والدور الفكري والثقافي الذي لعبه في حياة الأمتين العربية والفارسية فضلا عن إسهاماته المشهودة في تاريخ الحضارة الإسلامية فالدولة العباسية هي دولة العلوم والفنون والآداب وهي قمة ازدهار الفكر العربي وتواصله مع حضارات الشرق والغرب.
رابعا:- إن درس' صدام حسين' ـ من بدايته حتي نهايته ـ يعزز لدينا ذلك الشعور الذي يصل إلي حد اليقين بأن كوارث العرب والنكبات الكبري التي تحل بهم قد ارتبطت بالحكم الفردي ودكتاتورية القرار ونقص المشاركة الشعبية وغياب الديمقراطية فقد حارب' صدام حسين' إيران لأكثر من ثمانية أعوام حربا غير مبررة لا يجرؤ عراقي واحد علي الاعتراض عليها كما أن غزوه للكويت ـ وهي جريمة قومية بجميع المقاييس ـ لا تجد تفسيرا معقولا أو مقبولا حتي الآن كذلك فإن عناده ومكابرته في العقد الأخير قبل سقوط نظامه يؤكد هو الآخر قصور النظرة وافتقاد الرؤية وغياب القدرة علي المناورة السياسية الذكية والمغامرة بمستقبل شعبه وأمته ولكن ذلك كله لا يبرر أبدا الأسلوب البربري لإعدام رئيس عربي سابق صبيحة احتفال عيد الأضحي المبارك والحجيج يطوفون بالبيت الحرام ومشاعر المسلمين متأججة بمعاني التضحية والتسامح والفداء.
خامسا:- إن الإسراع بتنفيذ حكم الإعدام في الرئيس العراقي السابق' صدام حسين' برغم سوء التوقيت ودلالته المخزية إنما يؤكد المخاوف العراقية من إمكانية تهريبه بعملية فدائية مجنونة ومخاوف أمريكية أخري من أن تبدأ محاكمته في جريمتي' الأنفال' و'غزو الكويت' وكلا الجريمتين كان يمكن أن يكشف عن تواطؤ قوي كبري أمدته بالأسلحة المحرمة دوليا وزينت له أفعاله سياسيا وعسكريا وفي ظني أن أصحاب القرار العراقي لم يكونوا موفقين في إعدام' صدام' نتيجة الإدانة في قضية' الدجيل' وهم بذلك قد أعطوا للمحاكمة والحكم وتنفيذه بعدا طائفيا جعل من' صدام حسين' غريما لشيعة العراق بدلا من أن يجعل منه مطلوبا تاريخيا لكل طوائفه وأنا أظن هنا أن أصحاب هذا القرار قد خانهم ذكاؤهم ولم يحسنوا إخراج مشهد النهاية لأكثر الشخصيات جدلا في القرن العشرين علي نحو قد لا يسبقه فيه إلا' أدولف هنلر' مشعل حرائق الحرب العالمية الثانية.
سادسا:- إن نهاية' صدام حسين' تكتب رسالة العصر إلي الأنظمة والشعوب العربية معا مؤداها أن حرمان البشر من الحرية لا يستمر طويلا وأن نهاية الطغيان حتمية لأن من قتل يقتل ولو بعد حين وهي أيضا تؤكد أن الديمقراطية هي خلاص الشعوب الوحيد وأن الديكتاتورية مرحلة عابرة لا يمكن أن تدوم كما أنها تحمل مغزي له أهميته يؤكد أن الشعوب لا تعيش بالخبز وحده وأن أية إصلاحات عمرانية أو قصور فاخرة أو منشآت ضخمة تبقي في النهاية مجموعة أحجار بلا روح وأن التطور الحقيقي يأتي من خلال مسيرة الإصلاح واحترام الفرد والجماعة وتأكيد الحضور القوي للحريات وضمانات حقوق الإنسان وسيادة القانون.
سابعا:- إن مشهد النهاية في حياة' صدام حسين' يبعث هو الآخر برسالة إهانة جديدة للعرب والمسلمين فها هو رئيس سابق لدولة عربية كبري يلقي نهايته مع خراف العيد وكباش الفداء فضلا عن المعاني الإنسانية المؤلمة في تلك النهاية الدرامية التي تستفز المشاعر وتدعو إلي الاشمئزاز بغير حدود وأستطيع أن أزعم هنا أن مشهد النهاية قد أكسب' صدام' تعاطفا شعبيا ودوليا ملحوظين واقتطع من رصيد جلاديه فالإنسانية تضع الرحمة أحيانا قبل العدل وتعطي لاعتبارات معينة أسبقية علي سواها لذلك فإن تفاصيل ما جري في غرفة إعدام صدام سوف يبقي سابقة عنف يدخرها الذهن العراقي بدلا من المضي نحو التسامح والتوازن والاعتدال.
ثامنا:- إن تأثير إعدام' صدام' علي المشهد العراقي كله أمر يصعب التنبؤ به فالبعض يري أنه قد يكون مبررا للتهدئة والحد من غلواء العنف خصوصا علي المدي الطويل بينما قد يكون تأثيره تصعيديا علي المدي القصير ونحن نظن من جانبنا أن كل الاحتمالات واردة لأن' صدام حسين' كان شخصية جدلية يتفق حولها الناس أو يختلفون ولكنها تبقي رمزا للحاكم الباطش والنهاية المؤلمة والتفاوت الواضح في حكم التاريخ علي ذلك المغامر الذي أنهت حياته صفحة دامية طواها الشعب العراقي وإن بقيت منها مجموعة من الذكريات تلوكها الأجيال.
تاسعا:- إن تأثير إعدام' صدام حسين' علي حركة حزب' البعث' هو تأثير سلبي بكل المعايير فإختفاء الرمز يحرم أنصاره من إمكانية الالتفاف حول شخصية تاريخية مثل' صدام' حتي وهو في محبسه لذلك فإن فلول البعث العراقي لن تتمكن من المضي وراء غاية محددة أو هدف واضح باستثناء مشاركات متفرقة لا تعبر عن تيار متماسك أو قوة قادرة أما البعث خارج العراق فأمره يختلف إذ أن غالبيته قد تبرأت من ممارسات' صدام حسين' واعتبرته خارجا علي تعاليم البعث وأفكاره خصوصا منذ الصراع الحاد بين جناحي الحزب في كل من بغداد ودمشق علي امتداد السبعينيات والثمانينات من القرن العشرين وهو أمر لا زالت آثاره باقية وتداعياته مشهودة.
عاشرا:- إن الطريقة التي رأت بها الحكومة العراقية الحالية أن تنهي حياة' صدام حسين' في غرفة الإعدام علي النحو الذي تمت به والتوقيت الذي جرت فيه والظروف التي أحاطت بإجراءاته والملابسات التي ارتبطت بوقوعه تشير كلها إلي اتساع الهوة بين العرب وإيران وعودة الحديث عن العداء الفارسي تجاه الأمة العربية والمشاعر السلبية الكامنة بين القوميتين عبر التاريخ وهذه نقطة خطيرة لأنني شاهدت الكثيرين ممن كانوا يتحدثون بحماس عن سياسات إيران الإقليمية وهم يعبرون الآن ـ بعد الطريقة التي أعدم بها صدام ورد الفعل الإيراني لها ـ ما يؤكد أن شعبية إيران سوف تتراجع عربيا وأن الحديث عن أجندة شيعية سوف يتطابق مع مفهوم الأجندة الإيراينية وهو ما يؤكد أن نهاية' صدام حسين' قد سكبت مزيدا من الزيت علي نيران الطائفية في العراق وفي العالمين العربي والإسلامي.
,, هذه ملاحظات عشر نخرج بها من ذلك المشهد الدامي في حجرة الإعدام صبيحة أقدس أيام أعياد المسلمين في يوم ضحي فيه' إبراهيم' فداء لإبنه وضحي فيه العراق بديكتاتور مضي قويا حتي آخر أنفاسه والغريب أنه قد رحل ومعه من الأسرار ما كان يمكن أن يؤدي إلي تغييرات إقليمية ودولية ويفضح أدوارا لمن يدافعون عن الحرية ويتشدقون بحقوق الإنسان.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/1/9/WRIT1.HTM