تزايدت في السنوات الأخيرة الإجراءات الأمنية خصوصا في المطارات كما تعقدت خطوات الحصول علي التأشيرات وامتدت الطوابير امام القنصليات وتجاوز الأمر ذلك الي أمن الفنادق داخل الدولة الواحدة الي جانب اجراءات التفتيش والملاحقة وتأمين كبار المسئولين حتي أصبح السؤال المطروح هو هل يضحي الإنسان بحريته بل وأحيانا بخصوصيته من أجل مقتضيات الأمن وضمانات الحماية كجزء من مواجهة الإرهاب والعنف العشوائي؟ وقد عدت من رحلة أخيرة إلي لندن وتمشيت حافيا في مطار هيثرو عند بوابات الأمن الالكترونية من أجل التفتيش الدقيق قبل التوجه إلي الطائرة! كما تفضلت ضابطة الأمن بمصادرة زجاجة دواء كنت أحملها بدعوي أن القواعد الجديدة تمنع ذلك وقد حاولت اقناعها بتركها وأبديت استعدادي لتذوق محتويات الزجاجة أمامها لأنها مجرد مهديء للشعب الهوائية من السعال الشديد ولكنها رفضت مجرد الاستماع الي ما أقول, ومنذ أيام قليلة طلعت علينا السفارة الفرنسية في القاهرة ببيان صحفي يشير إلي تطبيق نظام جديد لتأشيرات الدخول في ضوء قرار صادر من المجلس الأوروبي منذ أكثر من عامين سعيا إلي توفير قاعدة بيانات موحدة لما يسمي بالتأشيرات البيومترية حيث كلف الاتحاد الأوروبي فرنسا
بداية هذه التجربة حتي يتم اختبار هذا النظام الجديد في عدد من الدول ومنها مصر علي أن تقوم الدول الأوروبية الأخري بتطبيق هذا الاجراء من عام2007 ويسعي هذا النظام إلي التعرف علي السمات البيولوجية لكل فرد من أجل تحديد صاحب أي وثيقة من خلال بيانات ثابتة لا تتغير بحيث يتعين علي كل طالب تأشيرة دخول إلي فرنسا أن يتوجه بشخصه إلي القنصلية الفرنسية بالقاهرة لتسجيل بصمات أصابعه العشر بواسطة جهاز رقمي خاص علي أن يتكرر نفس الأمر بالنسبة للشخص الواحد عند كل مرة يطلب فيها تأشيرة دخول جديدة وتفسير سلطات الاتحاد الأوروبي لهذا التكرار هو محاولة منع حدوث تخزين للبيانات الشخصية للأفراد لأن ذلك يمثل أحد المباديء المطبقة في فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي حيث يجري التخلص دوريا من البيانات الشخصية للأفراد حتي لا يتم العبث بها أو التلاعب بمحتوياتها, وبذلك أصبح للإجراءات المعقدة والنظم الجديدة مبررا أخلاقيا في محاولة للتجميل وتحسين الصورة! ولقد تردد أيضا أن شركة الأمن التي ستتولي القيام بحفظ هذه البيانات الشخصية ووضعها علي الحاسب الآلي هي شركة معروفة بعدائها للعالمين العربي والإسلامي! وهكذا نجد أن مساحة الحرية الفردية تنحسر في زماننا تحت دعاوي أمنية ومبررات أخلاقية, كما أن الخصوصية الفردية تكاد تختفي أمام إجراءات التفتيش وقواعد التأمين للمنشآت والمواصلات والأفراد, والأمر في ظني يثير عددا من القضايا نوجزها فيما يلي:
أولا: إن شكل الحياة اليومية قد بدأ يتغير في أكثر الدول ديمقراطية واحتراما للخصوصية الشخصية إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها لم تعد هي ذلك المجتمع الحر المفتوح الذي كنا نسعي إليه منذ عدة عقود, إذ الحرية الشخصية قد أصبحت مقيدة ودائرة الاشتباه واسعة والمعاملة في المطارات قاسية والحصول علي تأشيرات الدخول مسألة معقدة. فالحادي عشر من سبتمبر2001 قد قلب الدنيا رأسا علي عقب وخلق مناخا جديدا يتسم بغياب الثقة وانعدام الشعور بالأمان والرغبة في التشدد الأمني والمبالغة في الإجراءات.
ثانيا: إن المواطن العادي هو الذي يدفع الفاتورة الباهظة من حريته ووقته بل وأحيانا من كرامته أيضا, فما أكثر ما تتوقف السيارات لكي يمر موكب مسئول وقد يستمر ذلك لفترة طويلة تؤدي إلي غياب سهولة الحركة ويسر الانتقال في ظل بيئة مواتية لمزيد من الإجراءات الغريبة والقواعد الجديدة.
ثالثا: ليس منا من يجادل في أهمية الأمن وضرورة الالتزام به ولكن الصورة أصبحت حاليا قاتمة للغاية, ولم تعد الحياة يسيرة كما كانت منذ عدة عقود علي نحو يطرح السؤال الذي جعلناه عنوانا لمقالنا وهو: إلي أي مدي سوف تخنق القضايا الأمنية الحقوق الفردية والحريات الشخصية؟ بل إنني أتذكر الآن عندما ذهبت إلي لندن منذ قرابة الأربعين عاما كيف كانت الحياة سلسة بلا تعقيدات, إنسيابية بلا إجراءات في وقت كانت فيه أوروبا لا تزال تنفض غبار الحرب العالمية الثانية.
رابعا: إن التعقيدات الأمنية والإجراءات المكبلة للحريات قد أدت الي ظهور تنظيمات موازية خصوصا في النقابات المهنية والاتحادات الطلابية بل وأيضا المؤسسات الدينية ولم تشفع الاجراءات المتتالية في منع هذه الظواهر الجديدة بما يعني أن القضية الأساسية تكمن في الرقابة الذاتية ومواجهة الأسباب التي أدت الي حالة من الانفلات يجتازها المجتمع الدولي عامة وتظهر آثارها علي الوضع الداخلي بصورة خاصة, لذلك فإننا ننظر بشك شديد لجدوي بعض الإجراءات الأمنية أو الحراسات الشخصية.
خامسا: إننا نظن أن الحرية هي أغلي ما يملكه الإنسان وعندما تتهدد الإجراءات الأمنية تلك الحرية فإننا ننحاز إلي الحرية التي نحتاج اليها ونعتز بوجودها مثلما يحدث مع من يعشقون خصوصية الحياة الشخصية ويدركون أهمية تبني اكبر قدر من الحريات التي كفلها القانون والذي يجري التحايل عليه والتسرب منه مما يخلق مزيدا من غياب الثقة وتراكم الرفض المتبادل بين الذين يقومون بالإجراءات الجديدة ومن يعانون منها!
.. هذه ملاحظات أساسية أردت أن نفتح بها ملف التناقض المتزايد بين مفهوم الحرية الشخصية ومقتضيات الأمن العام حتي أنني أزعم أن الحياة التي كان يجب أن تزداد سهولة ويسرا قد أصبحت أكثر تضييقا وقبحا, وقد آن الأوان لكي نتمكن من توفير اساليب عصرية تحقق الأمن دون أن تغتال الحرية, فنحن نري أصابع الاتهام تشير دائما الينا وكأنما كتب علينا أن نظل رهينة الإرهاب الذي عانينا منه مباشرة عندما ارتكب جرائمه علي أرضنا ثم اساء الينا مرة أخري امام غيرنا.. هذه في عجالة خواطر أردت أن أسجل بها ذلك الظلم الواقع علينا عندما ندفع الثمن عدة مرات لمجتمع دولي يلاحقنا بالاتهامات!
|