في أثناء رحلتي الأخيرة إلي العاصمة النمساوية دعيت لزيارة متحف البرديات في' فيينا' وهو المتحف الذي يضم أكثر من مائة ألف بردية أهداها الأرشيدوق'Rainer' إلي المكتبة الإمبراطورية النمساوية في الفترة ما بين1883 و1889, وهي أكبر مجموعة من البرديات المصرية خارج البلاد, ولقد عكف عدد من الأثريين النمساويين في نهايات القرن التاسع عشر برئاسة' تيودور جراف' علي ترميم هذه المجموعة الضخمة وتحقيق عدد منها خصوصا أن هذه البرديات مكتوبة في البداية باللاتينية واليونانية إلي أن بدأت كتابتها بالعربية منذ عام648 ميلادية, وهي تضم وثائق قانونية وتجارية ورسائل سياسية
حتي أنه قيل لنا إن هذه الثروة المصرية لا تقدر بثمن ومن ضمنها مثلا نصوص من' كتاب الموتي' لدي قدماء المصريين وبرديات عن إجراءات عملية التحنيط وصور لعدد من المومياوات وكشوف بتكلفة المراسم الجنائزية, وإن كانت القيمة الحقيقية لهذه البرديات تبدو من أنها تضم مجموعة كبيرة من النسيج القبطي والفن الإسلامي أيضا, بالإضافة إلي التسجيل الدقيق للوجود الروماني واليوناني في مصر إلي جانب كتابات بالعبرية ونصوص العهد الجديد بالسريالية مع نسخ كاملة من القرآن الكريم
ولقد قال لنا المسئولون عن هذا المتحف الفريد إنهم يحتاجون إلي دعم مالي لا يتجاوز المليون دولار يمكن الإنفاق من ريعها الشهري لاستخدام اثنين من الباحثين المتخصصين يقومان بعملية تصنيف وتبويب وتحقيق أكبر عدد ممكن من هذه البرديات التي تعد كنزا كاشفا عن ثلاثة أو أربعة قرون من تاريخ مصر ومنطقة حوض المتوسط بل وتاريخ العالم كله, لذلك فإنني أهيب بصديقي العزيز الدكتور' زاهي حواس' أمين عام المجلس الأعلي للآثار وهو المعروف بغيرته علي التراث المصري ومتابعته للقطع الأثرية والوثائق المصرية أينما وجدت, أهيب به أن ينظر في هذا الموضوع المهم وأن يعطيه من علمه ووقته ما يكون كاشفا لفترة دقيقة من تاريخنا الوطني فضلا عن هويتنا الثقافية في مراحل مختلفة وأستأذن الآن في أن أتقدم بالملاحظات الآتية:
أولا: تكشف هذه البرديات عن أحداث فترة الفتح الإسلامي وما ارتبط بها من جدل تاريخي بين من يرون أن أقباط مصر استقبلوا الفتح العربي الإسلامي بحفاوة وترحيب, وبين من يرون علي الجانب الآخر أنهم إنما كانوا يتطلعون إلي من يخلصهم من ظلم الرومان ولم يكن يعنيهم في قليل أو كثير هوية القادم المنقذ, ولا شك أن جلاء هذه القضية والوقوف علي حقيقة المشاعر المصرية تجاه الفتح العربـي من خلال البرديات التـي نشير إليها سوف يكون إنجازا إنسانيا وتاريخيا ضخما قد يغير تماما من قراءتنا لما استقر في الأذهان حول تلك المرحلة.
ثانيا: يجمع المؤرخون علي أن مصر ظلت في الفترة ما بين الفتح الإسلامي حتي دخول' الفاطميين' إليها دولة قبطية في مجملها, ولم تتحقق لها أغلبية مسلمة إلا بعد ذلك, من هنا فإن قراءة برديات هذين القرنين من الزمان سوف تكشف هي الأخري عن قدر ضخم من الحقائق المتعلقة بالمشاعر المصرية والعلاقة بين المسيحية المصرية والدين الجديد القادم من شبه الجزيرة العربية, وهو أمر تبدو له أهميته إذا تعرضنا لدراسة التاريخ الاجتماعي المصري والانصهار السكاني والوحدة القومية التي أسهمت في تشكيل الهوية الوطنية لمصر بعد الفتح الإسلامي.
ثالثا: إن مصر التي توزعت كنوزها في ميادين العواصم الكبري وتصدرت آثارها متاحف العالم العظمي بدءا من' المتروبوليتان' في' نيويورك' مرورا' باللوفر' في' باريس' وصولا إلي' الأرميتاج' في' بطرسبرج' مع زخم كثيف لنماذج الاكتشافات الأثرية المصرية في' لندن' و'برلين' و'فيينا' و'روما' وغيرها من عواصم الدنيا, إن مصر مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضي بالتفتيش عن تراثها والبحث عن آثارها, لأن سخاءنا في بعثرة الآثار المصرية خصوصا في عصر' محمد علي' وأولاده قد استنزف قدرا كبيرا مما نملك وحرمنا من قطع نادرة ما زلنا نجاهد لاستعادة بعضها.
رابعا: إن التقليد الذي كان معمولا به مع أساتذة' المصريات' الأجانب والمنقبين عن الآثار قد أدي إلي عملية تسليم طوعية لنسبة لا بأس بها من آثارنا لمن اكتشفوها, حتي أنه يتردد أن' كارتر' الذي اكتشف كنوز' توت عنخ آمون' قد قام بتهريب جزء منها قبل الإعلان عن اكتشافه فحصل بذلك علي جزء معلوم وجزء آخر مسروق وهو أمر تكرر مئات المرات في تاريخ الحفريات الأثرية, حتي أن هناك مقولة شائعة تري أن مهربي الآثار المصرية وتجارها قد تمكنوا من تهريب أغلي القطع وأندرها ولكن استعصي عليهم نقل الأهرامات وأبي الهول!
خامسا: إنني ممن يظنون أن وجود الآثار المصرية في الخارج ليس نقمة كله فهناك من يعتنون بها ويحرصون عليها فضلا عن أنها منسوبة للحضارة المصرية دون تشكيك أو مغالطة, وهو ما يعني أن أية قطعة أثرية مصرية تخرج من البلاد ـ وتلك جريمة ثقافية وحضارية ـ هي سفير لمصر لدي من تصل إليهم, ونحن مازلنا نتذكر أن الحضارة المصرية هي الحضارة الملهمة والمعلمة والتي يجب أن يكون وجودها الخارجي رسالة دائمة إلي من لا يعرفون قدرها أو يستخفون بمكانتها..
ولا شك أن رؤوسنا تطاول السماء فخرا وسموقا عندما نتجول في أروقة المتاحف الدولية ونري أن أغلي مقتنياتها مصرية, حتي أن الشارع المؤدي إلي المتحف البريطاني يحمل اسم' الشارع القبطي' في إشارة إلي الكنوز المصرية التي يضمها ذلك المتحف, وعندما كنت سفيرا لبلادي في النمسا رأيت الآلاف من النمساويين يقفون في طوابير مع الساعات الأولي للصباح ـ في جو قارس البرودة والجليد يحيط بهم من كل جانب ـ ليتمكنوا من زيارة معرض الموميات الذي تمكنا من إقامته في مقر رئاسة الدولة النمساوية تكريما له وتعظيما لتاريخه, وعندما نجحنا في الحصول علي أرقي مبني في العاصمة النمساوية ليكون مقرا للسفارة المصرية زيناه بمسلة فرعونية من الجرانيت أرسلها لنا مصري غيور من مدينة أسوان وكان يوم تثبيتها في فناء السفارة مناسبة مصرية كبري شعرت بها العاصمة النمساوية كلها, ألم أقل لكم إنه في لحظات الإحباط والتردي نجد الأمل بالتفتيش في تراثنا والتنقيب في حضارتنا وتذكر ماضينا الذي لابد أن يعود!؟
الكبير الذي رحل
كتبت منذ سنوات مقالا في الأهرام بعنوان نجيب محفوظ بين الأدب والسياسة' تعرضت فيه لبعض الآراء السياسية التي تبرر حصول الكاتب الراحل علي جائزة' نوبل' بعد رحيل' توفيق الحكيم' بعام واحد فقط وفور نشرها تلقيت منه برقية رقيقة فيها تقدير واضح للمقال من الأديب العظيم الذي أحال المحلية الضيقة إلي عالمية واسعة ويومها آمنت أن الكبار كبار دائما.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/9/19/WRIT2.HTM