مثلما يكون الطفح الجلدى تعبيرًا عن علة فى الجسد فإن جرائم المجتمعات هى الأخرى تعد تعبيرًا عن علة فى الوطن، والمصريون يتابعون فى الفترة الأخيرة بقلق نوعية الجرائم وعددها فى صورة تدعو إلى مراجعة الأسباب والتفكير فى الملابسات، أب طبيب يذبح زوجته الطبيبة وأطفاله الثلاث وعشرات الحالات من قتل الزوجات لأزواجهن أو العكس مع العدوان الجائر على الطفولة داخل الأسرة بشكل يجعل زنا المحارم مقترنًا بسفك الدماء وإزهاق الأرواح! إننا أمام عصر جديد يخشى فيه المرء على من يتركهم فى الحياة وفقًا لقوله تعالى (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) والآن دعنا نبحث فى الأسباب التى تقف وراء هذه الظواهر الجديدة التى تستهين بالأرحام وتقتل الأطفال وتسمم الرجال وتخنق النساء، إن الأمر فى ظنى يرتبط بعدد من العوامل أطرحها الآن للتأمل سعيًا نحو الخروج من البيئة الحاضنة لهذه النوعية من الجرائم البشعة:
أولًا: الضائقة الاقتصادية: إن الظروف الاقتصادية التى تمر بها البلاد مع ما يبدو من أنه لا مناص منها ولا بديل عنها إلا أن الطبقات الأكثر عددًا والأشد فقرًا قد بدأت تعانى بشكل فاق كل التوقعات والحكومة تمضى فى برنامجها الإصلاحى والذى يلقى عبئًا كبيرًا فى جانبه الاقتصادى على طبقات غير قادرة على التحمل، خصوصًا وأن ذلك البرنامج قد جرى ترحيله من أجيال إلى أخرى حتى وصل إلى وقتنا الحاضر فأصبحت تكلفته عالية وثمنه غاليًا، وبهذه المناسبة فإننا نرى أن الحل الأمثل هو تحميل الفئات العليا فى المجتمع العبء الأكبر من هذا التحول خصوصًا وأن الطبقة الوسطى قد تحللت فى العقود الأخيرة، ولم يعد هناك مجال لأن تتحمل هى الأخرى أعباءً جديدة، ولابد أن أسجل هنا أن المواطن المصرى الصابر يفعل ذلك إيمانًا منه بنزاهة الرئيس وصدق نواياه، وأن الإصلاح لا بديل عنه، وأن الثمن لابد أن يتحمله الجميع مع توزيع متوازن يحقق العدالة الاجتماعية التى يتمسك بها الشعب المصرى ولا يثور إلا عند غيابها، ونلفت النظر هنا إلى أن الانفجار السكانى الهائل الذى نعانيه سوف يمتص دائمًا عوائد التنمية بل ويطيح أحيانًا بجهود الإصلاح ويصنع مناخًا محبطًا تنتشر فيه الجريمة بأنواعها الجديدة.
ثانيًا: شيوع المخدرات: إن ذلك الداء اللعين الذى استشرى فى عالمنا المعاصر تحت مسميات جديدة ومواد مخدرة طبية أو نباتية هو واحد من أكثر الأمور فتكًا بالمواطن المصرى لأنها تمزق المشاعر وتعبث بالعقل وتطيح بالضمير وتحيل الإنسان إلى كتلة بلا وعى أو شرف ولذلك فإن محاربة المخدرات بكل أنواعها هى واجب أصيل على الدولة والمجتمع المدنى وكل من يحمل قدرًا من المعرفة أو تجرى فى عروقه دماء مصرية تسرى بالوطنية الصادقة والخوف من المستقبل والحرص على الأجيال القادمة، ولعلنا نشير هنا إلى أن معظم الجرائم الجديدة تقع تحت تأثير المخدرات بأنواعها المختلفة حيث تخلق تهيؤات كاذبة وأوهامًا لا وجود لها فتجعل الجريمة سهلة، وتقتل الضمير حتى يطيح الجانى بضحيته.
ثالثًا: التفكك الأسري: لابد أن نعترف هنا فى شجاعة بأن التكنولوجيا الحديثة برغم كل مزاياها قد أسهمت فى نوع من التفكك الأسرى وقضت على التجمعات العائلية وأصابت الحياة الأسرية بدرجة من البرودة حتى أصبح صقيع الزمن الرديء دافعًا للعزلة ومبررًا للتوحد ودافعًا نحو الجريمة فى غياب أواصر القربى ولحمة الحياة التى تعلم الجميع حرمة الدم قريبًا أو بعيدًا، إن التربية فى المدارس والعظات فى المساجد والكنائس والبرامج فى التليفزيون والإذاعة كلها مسئولة عن تكوين العقل الجمعى للأسرة المصرية ولابد من خلال كل ذلك تفكيك ما استقر فى الأذهان المريضة وتركيب رؤية نظيفة وعقل سوى وفكر مستنير.
رابعًا: تراجع الوازع الدينى والأخلاقي: لقد أسهم التطرف بشراسة وضراوة فى خلق مخاوف لدى الأغلب الأعم من الناس من الإفراط فى التدين معتبرين أن ذلك يفتح بابًا يمكن من خلاله استقطاب أبنائهم وبناتهم، والمضى بهم أو بهن فى طريق لا يعلمه إلا الله، ولذلك فإن ضعف الشعور الدينى وشيوع الإلحاد، وانتشار حالة التمرد لدى الشباب قد خلق لديه منظومة يائسة تسمح له بأن يقتل وأن يجرح وأن يغتصب دون أن يرجف له جفن، ولقد أصبح علينا الآن أن نراجع تلك المنظومة الهائلة من تراكم القيم والتقاليد التى عفى عليها الزمن والأفكار المريضة التى هجرتها مجتمعات كثيرة، وهنا تبدو محنة التعليم وأزمة التربية وأهمية الصعود بهما إلى مدارج عليا تحمى الوطن وأبناءه، وتضرب الجريمة فى مقتل وتعلم الجميع أهمية التسامح الذى تتميز به مصر عبر أحقابها المتتالية.
إن الجريمة العائلية والمجازر الأسرية هى نتاج طبيعى للعوامل التى أسلفناها، ولابد من إجراءات وقائية لا تتوقف عند حدود العقاب القانونى أو العلاج الأمنى بل لابد من حملات توعية شاملة مع التأكيد بوجه خاص على دور المرأة صانعة الطفولة ومربية الأجيال وحاملة القيم الإيجابية وصاحبة الفضل على الأمم، فهى مدرسة إن أعددت أعدت شعبًا طيب الأعراق.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/691326.aspx