رأت كثير من الدول أهمية إنشاء عواصم إدارية تختص بالنشاط السياسى والمالى تمييزًا لها عن عواصم قديمة هرمت وأصبحت تحتاج إلى مئات المليارات حتى تستعيد شبابها وتسترد رونقها، وقد عاصرت ذلك أثناء عملى فى الهند، ورأيت كيف أن (نيودلهي) أو (دلهى الجديدة) أصبحت هى العاصمة الدبلوماسية للدولة الهندية الكبرى وبقيت إلى جوارها جنبًا إلى جنب (دلهى القديمة) بمعابدها ومساجدها وأسواقها وسكانها الذين تكتظ بهم، وزحامها المخيف والذى جعل المرء يشعر وكأنه فى يوم الحشر، ولقد جرى شيء من ذلك فى القاهرة التى تبدو فى ظنى متحفًا كبيرًا يجمع كل الحضارات التى توافدت على مصر والثقافات التى عبرت فوقها والديانات التى اعتنقها سكانها فأصبحت بالفعل أيقونة عجوزًا يستحيل تجاهلها فهى متحف الزمان، والمكان ولكن الزحام الذى أصاب المدينة خصوصًا وسطها تحول فى العقود الأخيرة إلى ظاهرة مقلقة تشير بوضوح إلى الانفجار السكانى ومشكلة التوزيع الديموجرافى على خريطة مصر، وبرغم أن لدينا القاهرة الكبرى بالتنوع الواضح فيها من القاهرة الفرعونية إلى القاهرة المسيحية القبطية إلى القاهرة الإسلامية العربية إلى القاهرة الفاطمية ثم القاهرة المملوكية والقاهرة الخديوية، إن ذلك التنوع هو الذى يجعلنا نحافظ على ذلك التراث بقدر ما نستطيع وأن نفرغ وسط العاصمة من وزارات وهيئات ومؤسسات يمكن أن يكون لها أماكن أخرى بحيث يستطيع ساكن القاهرة أن يتنفس فى ظل زحامها الخانق ومرافقها المترهلة فكان التفكير الطبيعى بعد يونيو 2013 ثم وصول الرئيس السيسى إلى سدة الحكم أن يكون موضوع العاصمة الجديدة مطروحًا بشدة، ولم يكن ذلك بدعة فقد سبقتنا إليه كما أسلفنا دول كثيرة فضلًا عن أن العواصم الجديدة تبشر بمراحل أكثر تقدمًا وتعطى إحساسًا بأننا أمام تطور فاصل وفى مستهل مرحلة مختلفة يسطر فيها المصريون صفحات من مستقبلهم الذى يتطلعون إليه، ولعله من المفيد أن نطرح هنا بعض الملاحظات على هامش هذه العاصمة خصوصًا وأن الستار قد جرى فتحه فى الأسابيع الأخيرة ليشاهد العالم أكبر كاتدرائية فى الشرق الأوسط جنبًا إلى جنب مع واحد من أكبر مساجد مصر على الإطلاق، وشعر الكثيرون بالذهول لحجم ما جرى من جهد وعرق ومال فى تلك العاصمة التى تبدو عنوانًا للخروج من عنق الزجاجة والدخول فى مرحلة جديدة، وأشير هنا إلى ما يلي:
أولًا: إن الدول عند اختيارها للعاصمة الجديدة تنهج واحدًا من فلسفتين الأولى تحرص على قربها من العاصمة القديمة لأسباب لوجستية، فضلًا عن رؤية تاريخية بينما توجد هناك فلسفة أخرى تبحث للعاصمة الجديدة عن موقع بعيد بحيث لا تلتحم بالعاصمة القديمة والنمطان موجودان فى عالمنا المعاصر، فالأول تمثله العاصمة الهندية الجديدة (نيودلهي) والآخر تمثله العاصمة النيجيرية الجديدة (أبوجا) ولذلك فإن المدرستين موجودتان فى أدبيات إنشاء العواصم الجديدة، وقد أخذت مصر بالأسلوب الهندى ويكفى أن نلاحظ الآن أن العاصمة الجديدة قد اشتبكت بالفعل مع شرايين القاهرة وطرق مواصلاتها ووسائل الاتصال فيها.
ثانيًا: إن المشكلة الحقيقية فى قرب العاصمة الجديدة من القديمة هى أن من يشغلون الوظائف يظلون فى مساكنهم بالعاصمة الأولي، ويكتفون بالتعامل مع العاصمة الجديدة كزائرين نهارًا يؤدون أعمالهم ويعودون إلى منازلهم على نحو لا يحل جزءًا من المشكلة التى دفعت إلى إنشاء العاصمة الجديدة ويرى بعض الخبراء أن إنشاء العاصمة الإدارية المصرية كان يمكن أن يكون على ضفاف النيل قرب هضبة الفيوم بالمنطقة بين المحافظات الثلاث المنيا وبنى سويف والفيوم ووجهة نظر أخرى ترى أنه يمكن أن تكون على ساحل البحر الأبيض تطل على أوروبا من الجانب الآخر، وقد استعضنا عن هذه النقطة تحديدًا بإنشاء مدينة العلمين، فضلًا عما يقرب من أربع عشرة مدينة جديدة هى امتداد لعواصم المحافظات بتقسيمها القديم، كما أننا يجب أن نعترف أن إنشاء العاصمة الجديدة بعيدًا عن القاهرة كان سيتكلف أضعاف ما جرى إنفاقه ولن ينال جزءًا من شهرة ما تم تحقيقه.
ثالثًا: إن مصر وريثة الحضارات كان لابد لها أن تظل بعاصمتها الجديدة حارسة للمحتوى التاريخى الضخم من الميراث العريق فى العاصمة القديمة التى تبدو متحفًا مفتوحًا من شارع الهرم إلى شارع المعز إلى منطقة مجمع الأديان اليهودية والمسيحية والإسلامية فى مصر القديمة، ولقد أسعدنى على الجانب الآخر أن أعلم - مثل غيرى أن العاصمة الجديدة سوف تضم أحدث الطرز من المؤسسات الكبرى فى الوطن بما فى ذلك جامعات حديثة ذات شراكة مباشرة مع الجامعات الكبرى فى عالم اليوم، والمستشفيات التى تتبع أحدث تقنيات العلاج وأدواته بل إن كثيرًا من عواصم العالم تتساءل فى إعجاب كيف استطاع المصريون تحقيق هذا الإنجاز الكبير فى فترة زمنية قصيرة نسبيًا؟!
إن العاصمة الإدارية الجديدة للدولة المصرية لا تنتقص من التراث الثقافى والركام الضخم للعاصمة القديمة، لذلك يجب أن ندرك جيدًا أنها يمكن أن تكون إضافة لها وليست بديلًا عنها، كما أن هناك بعدًا آخر وهو البعد الاجتماعى الذى يجعل المناطق الجديدة مراكز استقطاب لمن هم مستعدون لبذل جهد أكبر وبناء مستقبل أفضل.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/692451.aspx