سأظل أتذكره دائما ـ ودون مناسبة ـ فمازالت أصداء كلماته لي في اتصال هاتفي من المستشفي الذي كان يعالج فيه في لندن ترن في أذني عندما جاءني صوته الواهن في أحد الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر عام2004 يطلب مني بإلحاح أن أشارك في احتفالات السودان الشقيق بعيد استقلاله مع مطلع عام2005, الذي كان مقترنا بإعلان الخرطوم عاصمة ثقافية عربية وأذكر أنه قال لي( إنك لو ذهبت فسوف تخف وطأة المرض عني وسوف أطيب) ويؤلمني كثيرا الآن أنني لم أتمكن من تحقيق رغبته بسبب شواغل الحياة وارتباطات العمل, ذلك هو الذي كنا نناديه بعم أحمد حتي أن رئيسي مصر والسودان كانا يطلقان عليه نفس اللقب إنه السفير الراحل البروفيسور أحمد عبدالحليم سفير السودان السابق في القاهرة,
وبرغم أنني لا أنساه دائما إلا أنني تذكرته أكثر في أثناء زيارتي الأخيرة للعاصمة النمساوية حيث تزاملنا سفيرين لوادي النيل في فيينا ومندوبين للبلدين الشقيقين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية وغيرها من منظمات الأمم المتحدة في تلك المدينة التي تفوح بعطر الثقافة وتصدح منها موسيقي موزارات و بيتهوفن وفاجنر وغيرهم, إنني مازلت أتذكر ذلك اليوم القارس البرودة من شتاء عام1996 عندما احتشدنا ـ نحن السفراء العرب والأفارقة ـ لاستقبال سفير السودان الجديد في وقت كانت فيه العلاقات بين القاهرة والخرطوم تمر بأصعب ظروفها خصوصا بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس مبارك في العاصمة الإثيوبية قبل ذلك بعدة شهور وفي قاعة الشرف بمطار فيينا تقدم منا السفير القادم بزيه السوداني التقليدي وبدأ عميد السفراء في تقديمنا إليه وهو يصافح المستقبلين الواحد تلو الآخر إلي أن جاء دوري فإذا به يخرج عن السياق ويحتضنني في محبة بالغة لفتت نظر الجميع لاسيما أن تدهور العلاقات بين مصر والسودان كان معروفا في ذلك الوقت,
وقد ظل هذا دأب الراحل الكريم أن يعطي مصر خصوصية بالغة ويربط بين البلدين التوءم في كل المواقف وأمام جميع الصعاب ولا غرو فهو واحد من أبناء الجيل الذي نادي بوحدة وادي النيل حتي أنه خرج في مظاهرة الطلاب السودانيين بجامعة الإسكندرية غداة إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام1958 مرددين هتافهم الشهير الوحدة مع السودان أولا, ولست أنسي ولا أظن أن صديقي المرموق الدكتور محمد البرادعي مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية يمكن أن ينسي هو الآخر دور ذلك الراحل الكبير في تجميع مندوبي القارة الإفريقية ليقفوا معنا في دعم ابن مصر البار لذلك المنصب الدولي الرفيع,
ولقد فعل أحمد عبدالحليم ذلك إيمانا منه بأن السودانيين يفخرون بمدير مصري للوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا مثلما يفخر المصريون بمدير سوداني لمنظمة الملكية الفكرية في جنيف وهو الدكتور كامل إدريس ابن السودان الشقيق الذي يقع مكتبه في احد الطوابق العليا بمبني تلك المنظمة الدولية المهمة, بل إنني أتذكر أننا قد تناولنا طعام الغداء ـ عم أحمد وأنا قبل رحيله بأشهر قليلة ـ علي مائدة الدكتور كامل إدريس الذي نحمل له جميعا مشاعر التقدير والإعجاب ونري فيه جزءا من مستقبل السودان الإصلاحي الديمقراطي الناهض, إن أحمد عبدالحليم سوف يظل في ذاكرتي طيفا حالما قدم من الجنوب الذي نشأ فيه إلي الشمال الذي ارتبط به, بل إنه ترك العاصمة النمساوية برغبته ليعمل سفيرا لبلاده في العاصمة المصرية
ومازلت أذكر أنه جاءني ذات صباح في مكتبي في السفارة المصرية ليفاتحني في رغبته تلك وهي رغبة لقيت استجابة من الرئيسين المصري والسوداني بنفس الدرجة ولعلي أزعم أن ذلك الرجل قد لعب دورا كبيرا في تحسين العلاقات بين شطري الوادي وأعاد دفء الحياة إلي جميع جوانبها لأنه كان يعمل تحت مظلة وادي النيل وشعاراته الخالدة ويسعي لأن تأخذ الصلات الوثيقة بين البلد
ين طريقها الأزلي مع مجري النهر الذي لا ينضب حتي أنه جاء مرة ليقول لي في سعادة ان السيدة المصرية الأولي نادته هي الأخري بلقبه عم أحمد في أثناء لقاء لهما في أحد المؤتمرات بالقاهرة, إنني أتذكره نموذجا للهدوء والصبر ورقي الخلق ودعة النفس, لا يتطاول علي أحد ولا يسيء لإنسان ويسع قلبه الوادي الكبير بملايينه كلها ولم يقتصر ذلك الانطباع عنه علينا نحن أبناء الحضارة العربية الإسلامية بل إنني أتذكر الاحترام والتوقير اللذين كانا يحظي بهما من أعضاء السلك الدبلوماسي الغربي في العاصمة النمساوية, حتي أنني فوجئت بحضور السفير الأمريكي هناك جون ريتش حفلا كبيرا أقمته توديعا لعم أحمد قبل مغادرته إلي القاهرة وقال السفير الأمريكي يومها موجها حديثه إلي سفير السودان المنقول لعلك تعلم أن العلاقات بين بلدينا متوترة بل وسيئة ولدينا رأينا الخاص في حكومتكم ولكني لا أستطيع أن أتغاضي عن قيمتكم الشخصية ودوركم البناء والأثر الذي تركتموه فينا جميعا لذلك خرجت علي الأعراف وقررت المشاركة في توديعكم, وكان رد عم أحمد عليه أكثر بلاغة وحكمة فقد قال له إنني ممتن لكم وأشكركم باسم بلادي التي يذهب التكريم إليه
ا لأنني واحد من أبنائها! تلك كانت قيمة الرجل العالم ومكانة السفير المفكر, والذي أذكر له أيضا أنه عندما أقام النادي المصري حفلا لتأبين الإمام الشعراوي في ذكري الأربعين لرحيله رأيت عم أحمد يتصل بي ويقول إنني سأرافقك إلي النادي وسوف ألقي كلمة السودان بعد كلمتك, وكانت حفاوة المصريين في النمسا به يومها بالغة, كما أننا اشتركنا معا في دعم نادي أبناء النوبة بعاصمة النمسا باعتبارهم يمثلون جسر التواصل الحضاري بين شطري الوادي العريق علي نحو ترسخت معه روح الإخاء بيننا بشكل عفوي رائع وأنا اقتبس الآن سطورا من رسالة للكاتب السوداني عبدالله شريف يقول فيها:( في حفل أقامه الصحفيون العرب في فيينا يودعون فيه سعادة السفير أحمد عبدالحليم, الذي لم يروا مثله في البلاد, انتحي بي الدكتور مصطفي الفقي جانبا وقال لي: في غياب هذا الرجل ـ يقصد عم أحمد ـ أرجو أن تعتبرني الجالية السودانية في النمسا الأخ الأكبر, لقد كان ذلك موقفا كريما من الدكتور الفقي, إنه موقف لن ننساه, فهنا تتجلي كلمات مثل مصر الشقيقة), لذلك كله عندما بلغني نبأ وفاة عم أحمد وبرغم أنني كنت أعرف حقيقة مرضه وأتوقع الخبر الأليم في أي لحظة إلا أنني شعرت
يومها بفصل كامل من العصر الذهبي لكتاب الحياة ينتهي فجأة, وأن صفحة مشرقة في العلاقات بين الشعبين في وادي النهر قد انطوت وظللت اتأمل دائما طيفه يعبر في مخيلتي.. إنه طيف الجنوب الذي رحل.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/7/11/WRIT1.HTM