أكتب عنه بلا مناسبة فهي ليست ذكري ميلاده أو رحيله, وعندما يكتب المرء عن إنسان دون مناسبة فإن ذلك يمثل قمة الإحساس به لذاته لا أن تكون الكتابة استجابة لناقوس يدق في مناسبة ترتبط بصاحب الذكري, إذ يظل اسم إيهاب الشريف هاجسا حزينا في أعماقنا ولغزا دفينا في حياتنا ولست أخفي الدوافع الشخصية ذات الطابع الإنساني التي تقف وراء رغبتي في اقتناص هذه السطور للحديث عنه وتذكر تلك الأيام التي جمعتني به, فقد عمل مساعدا لي عندما كنت مديرا لمعهد الدراسات الدبلوماسية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي كما أنه صديق لكل من أعرف فقد كان منتشرا اجتماعيا, متألقا ثقافيا, متوهجا فكريا,
واعدا دبلوماسيا بالإضافة إلي صفات شخصية أخري من ذلك النوع الذي يستهويني فقد كان صبورا هادئا يتسم بالمرونة ويتصف بالذكاء لا تعوزه سعة الصدر ولا تنقصه القدرة علي التكيف مع الآخرين, كما كان إنسانا عمليا يجيد التصرف في الوقت المناسب, أذكر أنه طلب مني ذات مرة أن يرافق بعثة معهد الدراسات الدبلوماسية في زيارتها للعاصمة الفرنسية فإذا بي اكتشف أن ذلك التوقيت كان يقترن بموعد تسلم شهادته للدكتوراه من جامعة باريس! وكان رحمه الله موسوعي الثقافة شديد الفطنة لا يستصعب أمرا ولا يتردد في اتخاذ قرار ولعل مجموعة كتبه المصورة التي طاف بها من شمال أوروبا إلي جنوب آسيا لكي يقدم الشخصية الوطنية والهوية القومية لعدد من الشعوب المتميزة في التاريخ الإنساني
لعل ذلك يعكس قدرته علي تحمل المصاعب من أجل هدف يؤمن به أو غاية يسعي إليها بل إنني سمعت منه أنه قد عاد من باريس بسيارته الخاصة إلي القاهرة برا وبحرا بعد انتهاء خدمته الأولي في عاصمة النور, وليسمح لي القارئ أن أحيل اللوعة التي نشعر بها لفقدان شهيد الدبلوماسية وأحد فرسانها الراحلين إلي ملاحظات محددة ترتبط بالنهاية المأساوية لذلك الذي كانت حياته متألقة كالشهب خاطفة كالنيازك:
أولا: ـ إن عملية الاختطاف في حد ذاتها هي تصرف إجرامي مقيت يضع الضحية أمام عذاب نفسي لا حدود له يمارسه جلادون بلا عقل ولا قلب أو ضمير ويجعل النهاية بطيئة وخسيسة ومؤلمة ونحن لا نعرف كم عاني ابن النيل الراحل من عذابات في تلك الأيام المظلمة قبل أن ينفذ فيه بعض أبناء الرافدين ـ أو الدخلاء عليهم ـ حكم الإعدام ظلما وعدوانا.
ثانيا: ـ إن عملية اختطاف رئيس البعثة المصرية في العراق الراحل إيهاب الشريف تشير في ظروفها وملابساتها إلي عملية تسليم وتسلم قامت بها عناصر ليس لها حس قومي ولا مضمون أخلاقي إذ انني ممن يعتقدون أن الشهيد قد جري بيعه بين مجموعات آثمة تلوث الآن أرض الحضارات الشامخة في عاصمة العباسيين العظيمة وفي غيرها من مناطق العراق الذي انبعثت منه أضواء الحضارة العربية الإسلامية لعدة قرون وقد جاءت النهاية لتضيع دماء عربي مصري متميز تاهت أشلاؤه بين الكاظمية و الأعظمية دون تحديد, لكي يظل في النهاية شهيد مصر والعروبة والإسلام وضحية الحقد والظلم والطغيان.
ثالثا: ـ هل يعقل أن يمضي إيهاب الشريف سنوات رئاسته للبعثة المصرية لدي الدولة العبرية آمنا مطمئنا ثم تروعه وتروعنا نهايته البشعة في عاصمة عربية إسلامية ؟ أي قلب ذلك الذي سمح للجلادين بأن ينتزعوا حياة مبعوث مصر الحضارة والتنوير والتضحيات ؟ سفير الكنانة, الأرض التي باركها الله وذكرتها الكتب المقدسة ووضعها التاريخ الإنساني في أمجد صفحاته وأعرق فصوله ؟
رابعا: ـ إن قلبي وقلب كل عربي بل وقلب كل إنسان حر في العالم المعاصر يجب أن يدق بشدة وهو يتابع حزن أسرته الصغيرة ولوعة أبيه المسن كما نقف احتراما أمام الأسي النبيل لابنته الصغري التي لا تصدق حتي الآن أن أباها لن يعود ولا تفهم بعقلها الصغير قسوة الموت وقرار الرحيل بلا عودة والذهاب بلا رجعة, أما ابنته الكبري وأرملته الفاضلة فإنهما تتطلعان ـ كما نتطلع جميعا ـ إلي يوم يتم فيه إجلاء الحقيقة وكشف هوية القتلة ومن شاركوا في الجريمة ودبروا لها وخانوا الدين والعروبة و أم الدنيا في لحظة طائشة غاب فيها ضمير الحياة واختفت منها شمس الحقيقة وتشابكت معها خيوط الغموض, أين جسد الشهيد ؟ ماذا قال قبيل الإجهاز عليه خصوصا وأننا رأينا صورته علي شاشات التليفزيون معصوب العينين مرتديا ملابس النوم لا حول ولا قوة له والقتلة يقدمونه في مشهد استعراضي لن يختفي من ذاكرة المصريين أبدا ؟!
خامسا: ـ إن للمبعوث الدبلوماسي حصانات وضمانات مرعية إنسانيا, محترمة دوليا, تقوم عليها الدولة المضيفة والتقصير فيها أمر غير مقبول مهما كانت الظروف والأسباب ونحن نقدر الصعوبات الأمنية علي الساحة العراقية التي ابتليت بالوجود الأجنبي بديلا للحكم الديكتاتوري ولكننا لا نصدق في الوقت ذاته الروايات الساذجة لخروج السفير الراحل بسيارته وحده لشراء الصحف بل إننا نظن ـ وليس كل الظن إثما ـ أنه قد اختطف اختطافا من محل إقامته بدليل ارتدائه للملابس المنزلية التي كانت قد اشترتها له ابنته من قبل كما أن الحديث عن انتشاره الاجتماعي وشغفه الثقافي ونشاطه الدبلوماسي يمثل نقاطا تحسب له ولا تؤخذ عليه.
.. هذه ملاحظات حزينة أردت أن أسجلها بغير مناسبة إلا ذلك الخاطر الذي يعتادني حينا فحينا, وذلك الطيف الحزين الذي يزورني بين وقت وآخر عندما أتذكر زيارته لي في منزلي في فيينا عندما كنت سفيرا في العاصمة النمساوية وتكاد كلماته ترن في أذني عن طموحاته الواسعة وبرامجه البعيدة وأفكاره الكثيرة كما أتذكر زياراته لي في اجازاته الدورية من العاصمة الإسرائيلية وكيف كان تعاطفه شديدا مع الفلسطينيين وآراؤه صائبة حول مسار قضيتهم واتصالاته مستمرة مع قياداتهم من كل ألوان الطيف السياسي, وهو الرجل الذي كان يملك رصيدا فكريا ومخزونا ثقافيا يجعلان من وظيفته الدبلوماسية متعة إنسانية وتجربة مثيرة في كل أطوارها الصعبة والسهلة علي حد سواء
إنني أتذكر اليوم مع كل مصري وعربي شهداء العمل الدبلوماسي وضحايا العمل الإعلامي وهم يلحقون بالشهداء العظام للعسكرية المصرية والعربية بل والدولية في ميادين القتال وساحات الشرف وأحتسبهم عند الله شهداء إلي يوم الدين, أما أنت أيها الصديق العزيز إيهاب ففي مقعد صدق عند مليك مقتدر تنعي قدر أمة هانت علي نفسها وتفدي شعبا عربيا أبيا مزقته الحروب ودمره العنف وأصابه الفزع الذي لا ينقطع, وإذا قالوا إن دماءك تلطخ ثوب من يسمي بأبي مصعب الزرقاوي فإننا نرد عليهم بأن شعب الكنانة هو شعب أدهم الشرقاوي!
|