ارتفعت في الآونة الأخيرة نغمة الحديث عن الإصلاح الدستوري في مصر وتزايدت وتيرة الكتابة عنه والإشارة إليه وبرز اتجاهان رئيسيان حول أسلوب معالجة هذه القضية المهمة في تطورنا علي جميع الأصعدة والمستويات, ذلك أن قضية تعديل الدستور قضية أساسية لا يمكن الإقلال من شأنها أو تجاهل قيمتها, فالدستور أب القوانين وهو الوثيقة ذات التأثير في حياة الأمم ومصائر الشعوب وليس يعني ذلك ــ في الوقت نفسه ــ أن يتحول المواطنون إلي أسري لوثيقة جامدة لابد من احترامها والمغالاة في توقيرها ولكن المهم هو إحداث التوازن بين أهمية الدستور وواقع الحياة التي يعيشها الناس,
فالدساتير ليست نصوصا جامدة تكتب بماء الذهب ثم تودع أبراجا عاجية أو تستقر في متاحف تاريخية بل العكس هو الصحيح, فالدستور لابد أن يتميز بالحيوية والقدرة علي الاستجابة السريعة لمطالب البشر ومقتضيات الحال بحيث يصبح ترجمة صحيحة لما يريده الناس وما يتطلعون إليه, ومن خلال المناقشات المستفيضة واللقاءات المتكررة حول مسألة الإصلاح الدستوري في مصر نميز بين مدرستين, الأولي تستغرق في دراسة النصوص وتستهويها متعة تعديل الجمل والألفاظ لأنها مدرسة قانونية بالدرجة الأولي تسعي الي إحكام النص والارتقاء بلغة الدستور وصياغة مواده المختلفة
وقد تحلق هذه المدرسة في آفاق بعيدة تبدو أحيانا معزولة عن واقع الحال, ورغم أن هذه المدرسة هي المدرسة المتخصصة أساسا في صياغة التعديلات المطلوبة وصك النصوص اللازمة, ومع افتراض الوعي الكامل بالمتغيرات التي تحيط بعملية الإصلاح وتدفع إليها, إلا أن هذه المدرسة لا تقف وحدها علي طريق التعديل الدستوري, من هنا تبرز أهمية الأخذ بمدرسة أخري تغوص في الواقع وتستخرج منه عوامل التحول وأسباب التغيير, لذلك فإننا نري أن الإلمام بما يدور في الشارع السياسي وما يرتبط بحياة أبناء الوطن من حيث آلامهم وآمالهم وتطلعاتهم وطموحاتهم ينبغي أن يتماشي مع الوثيقة العليا التي تعبر عن ضمير الأمة وتعكس رؤيتها للمستقبل,
لذلك فإن الحديث عن الدستور يجب أن يكون مرتبطا بالجانب القانوني والجانب السياسي في وقت واحد لأنهما يعبران عن طبيعة المشهد الوطني وما يحتاجه المستقبل, فالدستور ليس وثيقة جامدة ولكن ينبغي أن يتسم بالمرونة والقدرة علي مواكبة التغيرات التي تطرأ علي تركيبة المجتمع حتي يصبح محصلة للقوي السياسية والاجتماعية فيه, لذلك فإننا نركز علي الملاحظات التالية:ــ
أولا: ــ إن كلمة الدستور تحتوي ضمنا مجموعة الأفكار والقيم التي يعتنقها المواطنون, كما أنه يمثل الإطار العام للدور السياسي والنشاط الاقتصادي والرؤية المستقبلية, لذلك كان الدستور أملا للشعوب في نضالها وهدفا يرتبط بالاستقلال في كل مراحل النضال من أجله والسعي اليه ولا يتصور أحد أن الدستور بعيد عن آمال الأجيال الجديدة وتطلعاتها, فلا يمكن أن يصنع الإنسان ما يصبح قيدا عليه أو عقبة علي طريق تطوره نحو الأفضل.
ثانيا: ــ تعني كلمة دستور مجموعة الضوابط الفكرية والأخلاقية التي تحكم العلاقات بين الأفراد وبينهم وبين الدولة, كما أنها تنطوي علي روح الاحترام الكامل, فنحن لا نزال نتذكر من تقاليد الريف أن صغير السن إذا مر ممتطيا دابة أمام من هو أكبر منه ولم يستطع النزول توقيرا له فإنه يقول له كلمة دستور, أي أن المكانة معروفة والقيمة محفوظة, كذلك فإن دخول المنازل من جانب الغرباء كان يقتضي هو الآخر نفس الكلمة دستور تعبيرا عن الاحترام وحفاظا علي حياء أهل البيت خصوصا من النساء, أي أن تعبير دستور يرتبط في الوعي الإنساني للمصريين بالقيم والأخلاق والتقاليد في وقت واحد.
ثالثا: ـ يعتبر تاريخ الدستور المصري تاريخا عريقا فقد عرفت مصر المحاولات المبدئية لإعداد دستور للبلاد في القرن التاسع عشر ولكن أهم دساتيرها علي الإطلاق كان هو دستور1923 عقب ثورة1919 حيث تبدو الأعمال التحضيرية لذلك الدستور وكأنها وثيقة رفيعة في الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي وحماية الحقوق وصيانة الواجبات ورغم أن ذلك الدستور العظيم قد تلقي ضربة قاصمة بوصول اسماعيل صدقي إلي الحكم عام1930 إلا أنه عاد بعد سنوات قليلة ليغطي الفترة الليبرالية السابقة علي ثورة يوليو1952 حتي بدأت دساتير ما بعدها تمثل تكريسا لفكر الثورة وملامح النظام الجمهوري, فكانت أقرب إلي الإعلانات الدستورية المؤقتة أكثر من قربها لمفهوم الدساتير الدائمة.
رابعا: ــ إن دستور1971 يعتبر وثيقة متقدمة فيما يتصل بالحريات العامة ولكنه يعكس واقع الحياة في وقته وظروف إصداره, فهو يتحدث عن تحالف قوي الشعب العاملة ويشير الي قيادة القطاع العام للتنمية الوطنية والنشاط الاقتصادي ويتحدث عن مجانية التعليم ونسب التمثيل الفئوي في المجالس المنتخبة, كذلك فإنه يسرف في استخدام الاستفتاءات ويحتوي بنودا قد تحتاج إلي مراجعة مثل وظيفة المدعي العام الاشتراكي وغيره من رموز مرحلة انقضت وذلك من منطق التطور وتمشيا مع طبيعة الأشياء, كذلك فإن الإشارة الي الشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع هي قضية رابحة لا يغامر أعداء دستور1971 بالتضحية بها.
خامسا: ــ يبقي السؤال المطروح هو هل الدستور تصوير للواقع وانعكاس له أم أنه, أي الدستور, هو الذي يفرض ذلك الواقع ويحدد ملامحه؟ إن الأمر هنا يحتاج الي مراجعة وتأمل, فنحن نحتاج إلي وثيقة طويلة العمر ثابتة القيمة, وفي نفس الوقت لا نريدها قيدا علي حركة المجتمع وتطور آليات الحياة فيه, لذلك فإن التوازن بين المدرستين, مدرسة النص ومدرسة الواقع يظل ملهما لواضعي الدساتير في كل المراحل والظروف.
.. هذه ملاحظات تضمها الذاكرة الوطنية المصرية التي مازالت تحتفظ برفض عزيز ميرهم لتحديد نسبة للأقباط في البرلمان أثناء الأعمال التحضيرية لدستور1923, لأن ذلك يتعارض مع مفهوم المساواة في المواطنة, وهي نفسها تلك الذاكرة الوطنية التي تتذكر كلمة العقاد الشهيرة في البرلمان المصري عن الاستعداد لسحق أكبر رأس في البلاد إذا عبثت بالدستور, وهي نفسها الذاكرة الوطنية التي عرفت مرحلة الانتقال من الشرعية الدستورية الي الشرعية الثورية ثم محاولة العودة الي الأولي بعد تجارب عديدة وظروف صعبة وتحديات قاسية, لذلك فإننا نظن عن يقين أن الدستور كائن حي لا يمكن انتزاعه من واقع الحياة أو المناخ الاجتماعي السائد لكي نجعل منه وثيقة نظرية تحلق في آفاق بعيدة تبدو متعالية علي الواقع وبعيدة عن ظروفه المختلفة, ونحن نظن أن الإصلاح الدستوري بالتعديل الذي يمكن أن يصل الي كل ما نريده حتي يقترب من روح التغيير الحقيقي يصبح هو المقدمة الحقيقية للإصلاح الشامل والرؤية المتكاملة لأننا نعتبر الدستور ضرورة إنسانية قبل أن يكون قيمة سياسية أو وثيقة قانونية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/4/19/WRIT2.HTM