في شهر مارس1964 رحل عن عالمنا المفكر الكبير عباس محمود العقاد وكنت يومها طالبا في السنة الثانية بالجامعة وهزتني وفاته من الاعماق لانني كنت أتوهم أن كبرياءه وشموخه سوف يجعلانه عصيا علي الموت يعيش من العمر أرذله! وقد دفعني رحيله إلي كتابة حوار بين العقاد وملاك الموت في لحظة الحساب ولابد أن اعترف انني كنت أعيش في تلك الفترة محنة الشك الكامل في كل شيء فقد كنت طالبا يدرس الاقتصاد والعلوم السياسية لم يبلغ العشرين من عمره
وتفد علي عقليته ـ المستعدة لاستقبال كافة الافكار والقيم ـ نوازع مختلفة فيها مسحة اشتراكية ونبرة قومية كما لاتخلو ايضا من الاهتمام بتيار إحادي يرتبط بالافكار المادية الكبري القادمة من أوروبا الحديثة واعني بها الماركسية و الدارونية و الفرويدية, وكنت منخرطا في النشاط السياسي الطلابي وجمعية الفكر الاشتراكي كما كنت رئيسا لاتحاد الطلاب متأثرا برؤية عالم السياسة الراحل الدكتور حامد ربيع الذي غاب عن عالمنا منذ سنوات في ظروف غامضة يبدو أن استخبارات النظام العراقي السابق كان لها يد فيها,
كما كنت متأثرا بطريقة التفكير المنظم للدكتور بطرس بطرس غالي والحساسية الفكرية المفرطة للدكتور عبدالملك عودة مع أناقة اللفظ وعمق الفلسفة اللتين تمتع بهما استاذي الراحل الدكتور رفعت المحجوب, ولكي اضع القارئ في الصورة الحقيقية للتركيبة الذهنية لما كنت عليه في تلك الفترة من مطلع الستينيات فانني اقرر انني قد بدأت طفولتي بحالة من الهوس الديني الشديد بدءا من كتاب القرية وحفظ القرآن الكريم فكنت اغشي المساجد في الصلوات الخمس حتي اصابتني محنة الشك المؤقتة التي استغرقت سنوات دراستي الجامعية
وساعد عليها المناخ الفكري والسياسي والاجتماعي في مصر حينذاك, أعود الآن إلي قصتي مع رحيل المفكر العظيم عباس العقاد فلقد تخيلت حواره بعد أن تصعد روحه إلي السماء وافترضت جدلا بينه وبين الملاك الذي يحاسبه تعرضت فيه لقصة غرامة بالكاتبة اللبنانية مي زيادة صاحبة الصالون الثقافي الشهير في عصرها, وايضا تطرقت إلي قصة حبه الصامت للفنانة المحترمة مديحة يسري واذكر انني التقيتها في مناسبة اجتماعية منذ سنوات قليلة وسألتها في هذا الامر فكان ردها هو ابتسامة حانية تضم ذكري العقاد فكرا وانسانا في آن واحد
بل انني تطرقت غداة رحيل العقاد ـ في جسارة لا أحب أن استعيدها ـ لعبقريات العقاد ـ وجعلت الجدل بينه وبين من يحاسبه يدور حول ماكتبه بدءا من عبقرية محمد وصولا إلي عبقرية المسيح, وقمت بمحاكمة طائشة للفكر الديني من خلال ذلك الحوار الذي لا أستطيع نشرة الآن فالدنيا قد تغيرت ومساحة التسامح انكمشت والحرية الاجتماعية تقلصت, وهو أمر يستحق التأمل ففي الوقت الذي غابت فيه الديمقراطية واختفت الحرية السياسية كان هناك قدر لا بأس به من الليبرالية الاجتماعية, ومن العجيب أننا الآن
وقد اتسعت مساحة الحرية السياسية نجد أن الحرية الاجتماعية تتواري وأن السماحة والرحابة تختفيان من حياتنا فالكل يضيق بالكل ومستوي الحوار هابط واللغة المستخدمة فيه تجاوزت الحدود فضلا عن افتقادها لأسس موضوعية أو حتي معلومات صحيحة, ولقد أغراني بالكتابة عن العقاد الآن ماكتبه عنه الناقد الكبير الاستاذ رجاء النقاش ورسالة الاستاذ شامل اباظة اليه في هذا الشأن, ولست اشك في أن العقاد المفكر والسياسي والشاعر والاديب هو نمط خاص في تاريخنا الثقافي الحديث لا نكاد نجد له نظيرا,
وانا احسب أن كتاب الاستاذ الكبير أنيس منصور عن صالون العقاد هو موسوعة متكاملة للتاريخ الفكري والاجتماعي في مصر خلال عدة عقود قبيل منتصف القرن الماضي وبعده في العهدين الملكي والجمهوري, وفي ظني أن هذا الكتاب هو أفضل كتب الاستاذ أنيس منصور كما أنني أتفق مع الاستاذ شامل اباظة في تصويره لنبرة العقاد عندما تسلم جائزة الدولة التقديرية من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر, فالمقارنة بين العقاد و طه حسين في هذا الموقف تظهر المجاملة الزائدة والاطراء الواضح الذي وجهه عميد الادب العربي للرئيس المصري الراحل بينما كانت لغة العقاد جافة ومجردة وخالية من عبارات الاطراء وألفاظ المجاملة وهو فارق معروف بين العملاقين الكبيرين وأسلوب كل منهما في التعامل مع الافكار والبشر علي حد سواء, ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات التالية:
أولا: ان الشك هو الطريق الوحيد إلي اليقين وليس ذلك ترديدا لمقولة ديكارت الشهيرة ولكنه تعبير عن الدورة الانسانية في حياة كل من تعاطي الفكر واشتغل بالعلم واهتم بالانسان, كذلك فان الشك عملية ايجابية تمثل نوعا من الجدل الصامت داخل العقل الانساني والذين يصلون إلي اليقين بعد محنة الشك هم أكثر صلابة في ايمانهم من اولئك الذين بدأوا بيقين اعمي موروث لايجادل ولايناقش ولايحاور.
ثانيا: اننا يجب أن نواجه بشجاعة حالة الاختناق الفكري التي نعيشها رغم الاتساع النسبي لمساحة الحرية السياسية في بلدنا وكيف أنها قد ارتبطت الآن بحالة من التراجع الملحوظ في مساحة الليبريالية الثقافية والقدرة علي تقبل الآخر, فالكل متشنج ورافض لغيره ومتحامل علي الجميع, انه مناخ مقلق ثقافيا واجتماعيا, فانا لا أعتقد أن بوسع طلاب الجامعة اليوم أن يمارسوا حياة ثقافية واجتماعية مثل تلك التي مارسناها منذ اربعة عقود, وهذا أمر يدعو للأسف ويستدعي المراجعة في وقت واحد.
ثالثا: ان العقاد ـ الذي لم يكمل دراسته المنتظمة ولم يدخل جامعة ـ سوف يظل علامة فارقة في التاريخ الفكري للحضارة العربية والإسلامية, وسوف تظل مواقفة من الشيوعية والنازية محل جدل دائم واختلاف في الرأي بين معاصريه, أما مواقفه السياسية فهي لاترقي في ظني لمكانته الفكرية وقيمته الثقافية وان كنا نعترف أنه صاحب العبارة الخالدة التي اطلقتها تحت قبة البرلمان عندما قال اننا مستعدون لسحق أكبر رأس في البلاد دفاعا عن الدستور.
رابعا: ان عصر العقاد و طه حسين و توفيق الحكيم وحولهم كوكبة مضيئة من مفكري الفترة الليبرالية في تاريخنا الحديث من أمثال أحمد لطفي السيد و سلامة موسي و علي عبدالرازق و أحمد أمين و محمد حسين هيكل وصولا إلي لويس عوض إنما يمثلون في مجموعهم محاور مضيئة علي طريق مكانة مصر الريادية وقيمتها الفكرية ودورها الاقليمي, فاذا كانت مصر هي الآثار الخالدة والحضارات المتعاقبة فانها ايضا ذلك التراكم الفكري والادبي والفني الذي نستمتع بآثاره حتي اليوم.
خامسا: انني أظن أن جائزة نوبل التي جاءت لاديبنا الكبير نجيب محفوظ عن استحقاق وجدارة هي تكريم لكل هؤلاء جميعا بدليل أنها وصلت إلي الادب العربي من خلال الروائي الكبير بعد عام واحد من رحيل توفيق الحكيم وهو مايعني أن القائمين علي أمر الجائزة الدولية لم يتمكنوا من تخطي الرموز الكبيرةصاحبة الاسماء اللامعة اثناء حياتهم, واظن أن هذه النقطة بالذات تعتبر وساما علي صدر الحركة الفكرية والثقافية في مصر خلال القرنين الماضيين بل أنها تحتوي ايضا رواد التنوير من أمثال رفاعة الطهطاوي و محمد عبده.
.... هذه خواطر ألحت علي في ذكري العقاد واثارت من الهواجس والهموم مايدفعني إلي القول بضرورة تبني توجهات ليبرالية حقيقية في حياتنا الفكرية والثقافية والاجتماعية والذين يظنون أن صعود التيار الديني في حياتنا السياسية سوف يكون عائقا أمام هذا الهدف لايفهمون الاسلام الصحيح ولا روحه المتسامحة التي جعلت التفكير فريضة إسلامية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/3/21/WRIT1.HTM