تطفو علي السطح من حين لآخر نغمة مقلقة تخلط بين مفهوم قيادة الدول وبين إدارة الشركات, وهما أمران قد يكون بينهما قاسم مشترك يرتبط بتعريف القرار الرشيد ولكنهما لايتطابقان أبدا في المبني أو المعني, إذ أن الوطن أمر يختلف عن سواه, ففيه مضامين إنسانية عميقة ومشاعر عاطفية قوية وله روح لا يمكن قياسها بمعيار الربح والخسارة, ولعلي أفصل هنا ما ابتغي الوصول إليه من خلال النقاط التالية:
أولا: إنه إذا كانت الدولة هي أرض وشعب وحكومة فإن فلسفة الوطن ترتبط بمعني الأمة وكل مايصاحبها من رؤية شاملة وذاكرة مشتركة, كما أنها تجسد مجموعة الروابط بين أطراف الجماعة البشرية دون النظر إلي الانتماءات الفكرية أو العقائد الدينية أو الشرائح الطبقية, ويكفي أن نتأمل شعور الألم الدفين الذي أصاب المصريين أخيرا وهم يتابعون ابتلاع البحر لقرابة الآلف منهم وكيف تحول هذا الشعور إلي حزن عميق سوف يبقي في وجدان الإنسان المصري وذاكرته الوطنية لسنوات طويلة؟
ثانيا: إن عرابي و مصطفي كامل و سعد زغلول و مصطفي النحاس و مكرم عبيد ومحمد نجيب و جمال عبد الناصر و أنور السادات ثم حسني مبارك هم نماذج لمدرسة الوطنية المصرية وأسماء رصعت سماء الوطن في مراحل مختلفة, وكان لكل منهم إنجازاته الباهرة وأخطاؤه الكبيرة أيضا, إلا أنهم ـ ومئات غيرهم من قيادات مصر ـ قد تميزوا بقاسم مشترك وهو الوقوف علي أرض مصرية وطنية تمتد جذورها إلي العصر الفرعوني مرورا بكل أحقاب التاريخ القومي وعصوره المختلفة وثقافاته المتداخلة وحضاراته المتجانسة, لذلك فإنني أقول ان الأزهر الشريف قد لعب دورا تنويريا
كما مارست الكنيسة القبطية نشاطا تعليميا في وقت كان فيه الجيش المصري ولا يزال هو المدرسة الأولي في الوطنية ووعاؤها الباقي وروحها المتجددة.
ثالثا: قد تحتاج الدول في مراحل معينة إلي من يأخذ بيدها اقتصاديا فيروج للاستثمار فيها ويفتح منافذ التصدير أمامها ويقوم بعملية تعبئة شاملة لمواردها من أجل التنمية وحشد قواها من أجل الديمقراطية ولكن يبقي أمر آخر يحكم كل الحسابات العلوية للمصلحة الوطنية التي قد يحققها سياسيون أو أكاديميون أو رجال أعمال أو تكنوقراط أو ضباط لأن المهم في النهاية هو تكامل الرؤية وشمول النظرة بحيث يبدو الكل في واحد لأن الأوطان أقوي وأدوم من المكان والزمان.
رابعا: إن مصر هي الحضارات والثقافات, هي الولاة والسلاطين, هي الملوك والرؤساء, هي الأحزاب والنقابات, هي الأزهر والكنيسة والجامعات, هي الصعيد والدلتا, هي السدود والترع والقنوات, هي شعب منجب في وطن عجوز اشتغل بصناعة الحضارة واشتبك مع كل العصور في صراع متواصل.. إن مصر هي الآثار والقصور والشوارع والحارات, إن مصر هي الفقراء والأغنياء, إن مصر هي المفكرون والمبدعون والعلماء, إن مصر هي الحروب الدامية والمعارك القاسية والإنكسارات المؤلمة والإنتصارات الظافرة, ألا يصنع كل ذلك وطنا عظيما يتجاوز كثيرا حدود إدارة الشركات أو تنظيم المؤسسات ؟
خامسا: تستأثر مصر في تاريخها الطويل بمكانة ذات خصوصية معروفة وفرادة واضحة ففيها مدينة واحدة تحوي خمس تراث الإنسانية كلها أو ربما مايصل إلي ربعه أو يزيد, فيها نيل لايتوقف عطاؤه وأهرام تبدو شاهدة علي التاريخ, صارعت الأزمنة وتحدت الغزاة ولفظت الطغاة, إن مصر ليست جزيرة هونج كونج ولن تكون لأن أعماقها تذهب بعيدا في ضمير الوجود كما تلعب التقاليد الموروثة والقيم الراسخة دورا شديد التأثير علي سكانها وأنا هنا لا أنطلق من عبقرية الزمان والمكان كما رآهما جمال حمدان ولكنني أنطلق أيضا من غزوة الأسكندر الأكبر
و حملة بونابرت وكيف اشتركا معا في استخدام ديانة المصريين طريقا للوصول الي قلوبهم فقد أدركا أن الركام الثقيل من أحداث التاريخ الطويل يجعل مصر شيئا بسيطا في مظهره مركبا في جوهره, إنها بلد تبدو دائما طيعة ولكنها تكون أحيانا عصية لايسهل قيادها ويصعب إضاؤها. .. من خلال استعراض النقاط السابقة فإنني أريد أن أقول بوضوح أن مصر وطن يختلف عن غيره فهي تنتمي إلي دول الحضارات القديمة مثل الصين والهند وغيرهما حيث لعب المكون البشري الدور الأساسي في صياغة الحياة وصنع المستقبل, فدول الحضارات القديمة لاتنصاع في قراراتها اليومية
لمنطق الربح والخسارة, ولكنها تحتكم إلي مخزون حضاري ضخم وتراث ثقافي عريق, لقد رأيت في الهند الأبقار تتهادي في الشوارع لايمسها أحد بسوء بينما الشعب الهندي يعاني نقص الغذاء أحيانا, فالقيم الروحية والاجتماعية قد تضرب القرار الاقتصادي بل وتعطل عملية التنمية برمتها. لذلك فإنني ممن يعتقدون أن التحديث مرتبط بالتحول البشري كما أن الانتقال إلي المستقبل يحتوي أبعادا ثقافية وفكرية وليست فقط حسابات تجارية أو توقعات اقتصادية. وإذا أخذنا المثال الهندي مرة ثانية ـ لأنه نموذج مشابه لنا كما أنني عايشته شخصيا لسنوات أربع ـ فسوف نجد أن جواهر لال نهرو
عندما أشرف علي المجلس القومي للتخطيط غداة استقلال بلاده فإنه استوعب مفهوم القومية الهندية لشعب متعدد الأصول والأعراق والديانات واللغات. ولكن الزعيم الهندي الراحل احتوي برؤيته الثاقبة جميع العوامل المحيطة بالكيان الهندي الواحد ولم يقع فريسة التصور المجرد للإدارة بمفهوم حسابي قد يدفع الدولة خطوات ولكنها تكون رخوة قابلة للتراجع أمام حدث كبير أو الإنهيار في مواجهة ضربة مفاجئة, لذلك فإن الذين يتصورون أن التنمية عملية اقتصادية بحتة أو أن الديمقراطية إجراء دستوري فقط هم واهمون فالتراث يحيط بالقرارات
والحارة الضيقة هي التي تحدد أحيانا مصائر الشعوب ويجب ألا نغفل ابدا تأثير الشارع مهما بدا هادئا كما يجب ألا نمضي بثقة وراء الأرقام والإحصاءات والإستقصاءات مهما يكن الإغراء شديدا, فالوطنية تعبير شديد التعقيد فيه معاني الإنتماء والولاء والتضحية والفداء والرغبة في النهوض والقدرة علي العطاء, قد يجوز أن تكون هناك دول أو أقاليم يصلح لها المنطق الحسابي عند تحديد مسار المستقبل هكذا فعلت بعض الدول الآسيوية الصغيرة ولعل جزيرة هونج كونج التي عادت إلي أحضان الوطن الأم منذ سنواتـ
مع الاحتفاظ بوضع خاص نظرا لظروفها الخاصة ـ تمثل نموذج الإعتماد المطلق علي القرار الاقتصادي المجرد بينما وطننا في مصر تختلف تماما فالمضمون الإجتماعي متجذر والوظيفة الأخلاقية أساسية في السلطة والثروة معا كما أن الأمم العريقة تستلهم خطاها من رصيد ماضيها وزخم حاضرها, إن حديث نيتشه إلي الأمة الألمانية مثله مثل نداء أتاتورك للأمة التركية أو شعارات الوحدة الوطنية التي رددها سعد زغلول مخاطبا أمته المصرية, فالدولة العصرية ليست هي المباني والمنشآت وليست هي المصانع والشركات وليست هي المدارس والجامعات ولكنها تلك الروح ذات الخصوصية التي تهيمن علي كل أولئك لهذا فإنني أقول وبيقين كامل,
مرحبا بكل الاجتهادات الفكرية والقرارات الاقتصادية والأنشطة الاستثمارية, مرحبا بالتزاوج بين السلطة والثروة في إطار من الشفافية المطلوبة والصدقية الكاملة مرحبا بهم جميعا شريطة أن يقف الكل علي أرضية وطنية كاملة لايتطلعون خارج حدود الوطن ولكن ينظرون إلي فقرائه قبل أغنيائه, يؤمنون بالعدل الإنساني والتكافل البشري والتضامن الإجتماعي, ويضعون الوطن قبل كل قرار, وفوق كل موقف, خصوصا إذا كان درة الأوطان منذ فجر التاريخ وطفولة الإنسان.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/2/21/WRIT1.HTM