يمثل تاريخ الفكر الانساني دائما مراحل تطور مستمر نحو الافضل, كما أنه يحتوي الي الخطوات المفصلية التي أدت إلي ارتقاء البشرية وسمو الانسان بما في ذلك من اختراعات واكتشافات بل وارهاصات, ولذلك فإن الذين قالوا إن تاريخ الكون هو تاريخ الافكار لم يخطئوا فيما ذهبوا إليه علي اعتبار أن الفكر هو بضاعة العقل الذي لايشكك فيه ولايتطاول علي أصحابه إلا أنصاف المتعلمين ومن يحاولون في ظروف استثنائية تحقيق مالا يصلون إليه في الظروف الطبيعية خصوصا أننا في وقت تختلط فيه الحرية بالفوضي وتنتشر الاكاذيب وتكثر الافتراءات, فالقوالب قد نامت والانصاف قد قامت!
كما يقولون احيانا, والغريب في الأمر أن محاولات التطاول علي الكبار لاتأتي إلا من صغار العقول ضعاف النفوس الذين في قلوبهم مرض, وعلي الرغم من أن بيوتهم من زجاج فإنهم لايدركون الحقيقة ويمضون في طريق الانحراف الذهني بل والشذوذ النفسي, يخلطون العام بالخاص ويبتعدون عن الموضوعية, أقول ذلك لكي أؤكد أن الشجرة المثمرة هي التي يقذفها الصبية بالحجارة, ولايصح في النهاية إلا الصحيح, لذلك كان طبيعيا أن يصمد الفكر الانساني دائما مترفعا عن النظرة الجزئية مهتما بالرؤية الشاملة التي تري الأمر من كل زاوية, ومن هذا المفهوم فإننا نؤمن بالافكار المتكاملة التي تعتمد علي نظرية وحدة المعرفة
كما أننا نعتقد أن الشخصية الموسوعية سواء في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية أو حضارة النهضة الأوروبية هي تجسيد لذلك النمط الذي يجعل من الفارابي و ابن سينا وابن الهيثم مثلما يجعل من بيكون ودانتي وتولستوي نماذج ضخمة في التراث الانساني, كله فقد كان الواحد منهم عالما وأديبا وفنانا في وقت واحد, بالاضافة إلي عمق في التفكير وعبقرية في التعامل مع الأشياء, حتي بدأنا نشعرـ خصوصا في العقود الأخيرة ـ بأن العلوم والآداب والفنون ليست قطاعات متباعدة ولكنها فروع من المعرفة تتداخل في عصرنا بحيث لاتوجد خطوط فاصلة بينها وهو أمر يفضي بنا إلي الملاحظات التالية:ـ
أولا: إن رسوخ نظرية وحدة المعرفة وثبوت سلامتها من خلال استقراء التاريخ الفكري للبشرية يؤكد أن العلاقة بين العلوم والآداب والفنون علاقة متكاملة وليست متنافسة, كما أن الحدود بينها ليست قاطعة أو مانعة ولكنها تشير إلي التداخل بين فروعها والتزاوج بين مصادرها.
ثانيا: إن انهيار نظرية السبب الواحد لتفسير أي ظاهرة أصبح هو الآخر مدعاة لضرورة الإلمام بالعوامل المختلفة التي تتشكل منها الظواهر الكونية بل والأحداث اليومية أيضا, فحيث لايكون هناك تفسير يؤسس لمبدأ السببية, وحيث تسود النسبية ويختفي المطلق فإننا نحتاج إلي مرونة الحركة كي نبحث بين العلوم والآداب والفنون.
ثالثا: إن تطور العلوم الحديثة وازدهار الآداب المعاصرة إلي جانب حركة الفنون العالمية قد استحدثت في مجموعها فروعا جديدة للمعرفة اصبحت تمزج بين اصول قديمة ظلت لسنوات طويلة راسخة في العقل البشري, فأصبحنا نسمع عن الهندسة الوراثية والطب الصناعي والنقد الفني وتكنولوجيا المعلومات وكلها تمثل مزيجا من روافد فكرية مختلفة تعيد إلي الأذهان مسميات برزت في القرنين الماضيين من مثل الاقتصاد السياسي وعلم النفس الاجتماعي والإحصاء التطبيقي, وهنا يجب أن نعترف بأن الرواية لم تتم وأننا سوف نشهد في المستقبل سبائك جديدة من مصادر متباينة للمعرفة تؤدي في مجملها إلي الارتباط الوثيق بين العلوم والآداب والفنون.
رابعا:ـ إن الشخصية الموسوعية ـ التي تحدثنا عنها والتي بدأت تطل علي الانسانية من جديد ـ هي في حد ذاتها تجسيد لتلك الصلة العميقة بين فروع المعرفة الثلاثة: العلوم والآداب والفنون باعتبارها محاور للفكر الانساني عبر التاريخ حتي أصبحنا أمام العالم الذي يهوي الأدب, والطبيب الذي يعزف الموسيقي, والمهندس الذي يقرض الشعر, فقد أصبحت هذه نماذج عصرية تقترب من مفهوم الرؤية الشاملة التي لانمل الحديث عنها والدعوة إليها, فأنا شخصيا انبهرت منذ سنوات طويلة بشخصية السياسي البريطاني العتيد ونستون تشرشل عندما عرفت أنه قد حصل علي جائزة نوبل في الأدب وليس في العلوم الاجتماعية
كما أنني أقرأ باستمتاع لعالم مصري من طراز أحمد مستجير عندما تمتزج الرؤية لديه لتربط بين الحاضر والمستقبل, بين الهندسة الوراثية ومخاطر الاستنساخ, كذلك فإنني مازلت مبهورا بنموذج عباس محمود العقاد في تاريخنا الفكري المعاصر وأنا أراه سبيكة متفردة تؤكد الارتباط العميق بين العلوم والآداب والفنون, فهو الباحث والكاتب والشاعر في آن واحد, ولست أخفي أيضا إعجابي ـ رغم اختلافي ـ بالرسام الراحل حسين بيكار عندما كنت أراه يرسم البورتريه ويقرض الشعر ويعتنق البهائية! في مسيرة حياة قد نتفق معها أو نعترض عليها ولكننا نؤكد دائما أن الابداع هو القاسم المشترك فيها, وبهذه المناسبة فإني أود أن أسجل أن تشرشل السياسي والأديب كان رساما أيضا.
خامسا:ـ إن فلسفة الوجود قد جعلت العلاقة بين الانسان والحيوان والنبات علاقة متكاملة, فالأول يأكل الثاني والثالث, والثاني يأكل الثالث والأول في انسجام بيولوجي لايقدر عليه إلا الخالق وحده الذي يضبط ايقاع التوازن الأيدلوجي بين أنماط البشر أيضا, لذلك فإنني أقول إنه إذا كانت العلوم تقوم علي توظيف المعرفة لخدمة الصناعة تحت مسمي التكنولوجيا وإذا كانت الآداب هي مرآة الحضارة ومخزونها الباقي فإن الفنون هي التي تقوم علي قيمة الجمال المستندة إلي النسب الرائعة بين الاشياء, ولست أشك لحظة في أن نهضة الفنون هي في النهاية معيار التقدم ومؤشر الارتقاء.
وهذه دلالات أردنا من استعراضها أن نثبت حقيقة فكرية معاصرة وهي أن التكامل في الكون يقابله تكامل في المعرفة ومخطئ من يتصور أن التعقيدات التي طرأت علي الحياة وجعلت لنظام التخصص دورا فاعلا في التطور العلمي قد اصابت بأي شكل من الاشكال حماسنا لوحدة المعرفة التي كانت سائدة منذ عدة قرون ثم توارت لفترة بعد الثورة الصناعية في أوروبا إبان العصور الوسطي ثم بدأت الآن تستعيد عافيتها لكي تكون إطارا معبرا عن نضوج العقل البشري وبلوغ مرحلة عليا من مراحل التطور
إنني أريد أن أقول إن التواصل بين فروع المعرفة قد أصبح الآن هو نموذج العصر خصوصا مع تقدم أدوات الحصول علي تلك المعرفة في وقت أضحي فيه الانترنت يمثل مخزونا متاحا وميسورا أمام كل من يسعي إليه, إنني مازلت أكرر مرة أخري أن الرؤية الشاملة لاتتحقق بغير الإلمام بطرف من كل فروع المعرفة, ولست أعني بذلك الافتئات علي التخصص الرأسي ولكنني أطالب بدعمه من خلال ارضية صلبة تضم بشكل أفقي فروعها المختلفة واحاطته بخيوط التواصل بين العلوم والآداب والفنون التي تشكل في مجموعها ذاكرة الأمم وضمير الحضارات ووجدان الشعوب.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/12/13/WRIT1.HTM