كنت أتندر بتسمية الرئيس العراقي السابق لحرب الخليج الثانية بأم المعارك ولكن عندما خضت تجربة الانتخابات النيابية الأخيرة شعرت بأن الشهرين الأخيرين يمثلان لي أم المعارك في حياتي كلها, ولقدكنت أظن لفترة قريبة أن مدة خدمتي العسكرية مجندا ـ وقد كانت قصيرة ـ هي اصعب مراحل حياتي الشخصية, ولكن عندما مررت بهذه التجربة الأخيرة ادركت ان فترة التجنيد كانت شيئا مقبولا بالنسبة لما تكبدته من مشقة وعرفته من أهوال, فعندما تكون دائرتك الانتخابية هي مدينة عريقة تمثل عاصمة إحدي المحافظات الكبيرة ويحيط بها عدد من القري يتجاوز السبعين فإن المسألة تبدو صعبة للغاية في مساحة مترامية الأطراف يقف أمامها الانسان عاجزا كيف يبدأ؟ فقد كان لابد لي أن أجوب القري قرية قرية وأن أتنقل في أحياء المدينة المختلفة
وأن أقابل كل يوم الآلاف من مختلف الطبقات والفئات أتحدث إليهم وأستمع منهم وأتحاور معهم, ولعلي أكون صادقا مع نفسي إذا قلت هنا إن المرشح في انتخابات برلمانية كبيرة يشعر أحيانا بشيء من الهوان, فهو يسعي إلي الناس وربما كان الناس يسعون إليه من قبل, كما أنه يبدو كصاحب حاجة, فكل تصرفاته يجري تفسيرها علي ضوء تطلعه إلي تأييدهم والحصول علي أصواتهم, لذلك تبدو مهمته وكأن فيها شبهة الاستجداء مهما علا قدره وارتفعت مكانته فمصافحته للناس وذهابه إليهم تبدو ايضا وكأنها عربون شراء الأصوات حتي ولو كانت تلك طبيعته وما يعرفه الناس من تواضعه وبساطته, فالترشيح في الانتخابات في نظري محنة حتي لأكثر الناس شعبية, ومهمة غير سهلة علي البشر في كل زمان ومكان, ولقد رأيت خلال جولاتي الانتخابية علي امتداد شهرين
ما لم أره في حياتي كلها من اصحاب الحاجات ومن يعانون المشكلات ويتعرضون لظروف قاسية ـ تجعل الحديث في السياسة معهم ترفا لا يحتاجونه وسفسطة لا يتحملونها ـ بدءا من طوابير البطالة ونقص الخدمات العامة في المرافق المختلفة وتدني مستوي المعيشة في بعض المناطق, وهو الأمر الذي ترك في أعماقي شعورا دفينا بأنني خرجت من الانتخابات مختلفا عما كنت عليه عندما بدأتها فلقد مررت بتجربة إنسانية مثيرة ورأيت من الناس وفيهم ما لم أره في كل حياتي.. ابتسامات صادقة أحيانا وخادعة غالبا, حفاوة مظهرية قد لا تعكس بالضرورة ما في القلوب فضلا عن التحالفات المرحلية والتربيطات الخفية والتكتيكات الوقتية, واضعين في الاعتبار أن الانتخابات لم تعد شعبية في الشارع ولكنها أصبحت تنظيما أمام صناديق الاقتراع,
لذلك فإنه يهمني أن أرصد بأمانة أمام القاريء الملاحظات الآتية:ـ اولا: لقد تغير الشارع المصري كثيرا وجرت عليه تحولات كبيرة بحكم الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل والسياسية ايضا التي مرت بها مصر في العقود الأخيرة, فلقد اختلط مفهوم الحرية بأسلوب التطاول ومنطق الفوضي إذا كان للأخيرة منطق, ولم تعد الأعراف السائدة حتي في الريف هي تلك التي استقرت لمئات السنين, فالعائلة لم تعد هي الكيان الوحيد المؤثر في بنيان المدينة أو القرية ايضا حتي اصبح الصوت الانتخابي بحق صوتا بصوت يجب ان يسعي إليه المرشح دون تجاهل أو اهمال, ولقد شعرت شخصيا بأن مفاتيح العائلة المصرية قد تغيرت بحكم التعليم والثقافة والإعلام مع تزايد الإحساس بالذات وشيوع النزعة الفردية التي تجعل الأمر أكثر صعوبة وأشد تعقيدا.
ثانيا: إن ما هو معروف علي السطح أمر يسهل التعامل معه, أما تلك القوي التي تلعب في الخفاء فتلك مسألة أخري لأنه لا يمكن التعرف علي هويتها كما أنها لا تظهر نياتها الحقيقية, فهي أقرب إلي الميليشيات التي تقوم علي الطاعة العمياء وتضرب الديمقراطية في مقتل وتحرم جميع القوي السياسية من التعامل الندي لأنها في الواقع لا تعتبر نفسها طرفا مع آخرين ولكنها تري أنها قوة أحادية علي المسرح بكامله وهنا مكمن الخطر ومبعث القلق.
ثالثا: لم تعد الانتخابات ظاهرة شعبية بل اصبحت عملية تنظيمية, يبدو الفارق فيها بين الولاء للمواطن والولاء لصندوق الانتخاب, فالمهارة للوصول إلي الأخير ليست هي بالضرورة القدرة في التعامل مع الأول, ولكي نوضح هذه النقطة فإنني أقول أن شعيرة الحج هي الصعود إلي عرفات, كما أن الكرة هي الأهداف امام الانتخاب فهو صندوق الاقتراع يوم الانتخاب نفسه, لذلك فإن حرفية المرشح قد لا تبدو في شعبيته بقدر ما تبدو في قدرته التنظيمية, ولقد دخلت علي العملية الانتخابية مستجدات تكنولوجية أصبح الكمبيوتر أداة رئيسية فيها وتحولت التسهيلات العلمية إلي أداة إغراء لصالح المرشحين في جميع الدوائر.
رابعا: إن طبيعة البشر تختلف من منطقة إلي أخري فهناك مدن عنيدة برغم ذكائها وقري خبيثة برغم طيبتها الظاهرية ولا يعرف المرء احيانا كيف يتعامل مع هذه التركيبة البشرية التي تختلط لديها المصالح بالتربيطات, والأموال بالشعارات, وتطفو علي السطح لغة تضع المرشح أمام كم هائل من المطالب المعقولة وغير المعقولة باعتبار ان الانتخابات موسم لا يتكرر إلا كل عدة سنوات يجب أن يحقق اثناءها المواطنون مطالبهم العامة والخاصة علي حد سواء.
خامسا:إن الشباب اصبح يمثل قوة تصويتية لا يستهان بها خصوصا بعد عملية القيد الجماعي التي تمت لمواليد مطلع الثمانينيات, وهو ما أضاف أيضا القوة التصويتية للمرأة لا في المدينة وحدها ولكن في القرية ايضا وهو أمر عزز من رصيد بعض القوي الأكثر تنظيما علي حساب القوي الأخري الأكثر شعبية.
.. هذه ملاحظات سقناها لنؤكد أن الديمقراطية في مصر ليست فكرا واحدا لدي الجميع ولكن الكل ينظر إليها من زاويته, فالبعض يؤمن بها والبعض الآخر يستخدمها مرحليا ويوظفها كأداة للوصول إلي السلطة وكأنها هي سلم يصعد به ثم يركله بعد ذلك, فلا أحد يصعده بعده كما لا يهبط هو من موقعه,
والواقع ان أحادية التفكير قد خلفت شعارات مبهمة يصعب فهمها فهما صحيحا, كما أنها تحرم تلقائيا القوي والفئات الأخري من ممارسة دورها المنتظر, ويهمني هنا أن أضع القاريء أمام حقيقة لا أتردد في ذكرها وهي أن الانتخابات العامة في مصر مازالت تتأرجح بين شقي الرحي باستخدام الدين في جانب
واستخدام المال في جانب آخر, وهو ما يجعل الساحة قلقة ومتوترة ويحرم الكثيرين من ذوي الكفاءات من دخول البرلمان, ولا شك أن النتائج التي ظهرت حتي الآن تعزز من وجهة نظرنا وتؤكد أن الناخب المصري لا يعنيه الانتماء الحزبي للمرشح بقدر ما يعنيه انتماؤه الديني وقدراته المادية,
وقد تأكد ذلك بالفعل في نتائج العديد من الدوائر, لذلك فإنني أزعم أن المجلس القادم لن يكون مجلسا طيعا سهل القياد, ولكن الرد العملي الوحيد لذلك كله يكمن في ايجاد كوادر فاعلة تحسم الحوار البرلماني وتستطيع مقارعة الحجة بالحجة الأخري.. حقا لقد كانت تجربة مثيرة بكل المعاني خرجت منها منهك القوي ممتليء الرغبة في التغيير إلي الأفضل مدركا حجم المعاناة لدي البسطاء والكادحين متيقنا أن هناك قوي سياسية معينة حصدت الأصوات لا حبا فيها أو إيمانا بها ولكن رفضا للحكومة القائمة وتمردا علي الواقع المعاش.. لقد كانت تجربة فريدة في حياتي كلها اكتسبت فيها أصدقاء جددا كما اكتسبت أيضا خصوما لا أكرههم وأعداء لا أعرفهم فتلك هي لعبة الانتخابات.. معارضون ومؤيدون, صخب وشعارات, ضجيج وتحالفات, موائد ومشروبات, نقود ومعتقدات, مصافحة وقبلات, إنها مأساة وملهاة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/11/29/WRIT1.HTM