لا نكاد نعرف دولة في عالمنا المعاصر يحتاج مستقبلها الي كل الآراء ومختلف التوجهات مثلما هو الوضع بالنسبة لمصر, فمصر ليست بلدا صغيرا يمكن تجاوزه, وليست دولة كبري تخضع للحسابات العلوية في العلاقات الدولية, كما أنها ليست بلدا غنيا, كذلك فإن تصنيفها بين الدول الفقيرة يظلمها هو الآخر الي حد كبير, لذلك فمصر نسيج وحدها وبنت ظروفها, وعندما نتطرق إلي سيناريوهات مستقبلها فإننا يجب أن نركز علي القضايا الكلية وألا نضيع في زحام الأمور الفرعية والمسائل الثانوية, وسيناريوهات المستقبل المصري محكومة بالعلاقة بين عدد من العوامل المتشابكة التي يؤدي وجودها الي حالة اشتباك حقيقي وجدل دائم ولكي نكون منصفين فإننا نرصد العوامل المؤثرة في مستقبل الوطن المصري من خلال المحاور التالية:
المحور الأول: العلاقة بين الدين والسياسة
تعتبر العلاقة بين الدين والسياسة في مصر علاقة تبادلية, لا يمكن تجاهل تأثيرها أو الإقلال من شأنها, فلقد لعب الدين ـ ولايزال ـ دورا متغلغلا في الكيان البشري للدولة المصرية منذ بداية العصر الفرعوني حتي اليوم, كما يري عدد من الخبراء والمعنيين بالشأن المصري العام أن الدين يمارس دورا شديد التأثير علي المواطن المصري العادي, كما أن ذلك التغلغل يتزايد مع الوقت ولا ينحسر, ولا بأس في ذلك علي الإطلاق مادامت رسالة الأديان هي الدعوة الي الفضائل ومحاربة الرذائل, ولكن مقتضي الحال يؤكد أن تطبيق النص علي الحالة المصرية يثبت أن السلوك الجماعي المصري هو سلوك ديني من الدرجة الأولي, لذلك استثمرت بعض الحركات السياسية المختفية وراء أردية دينية هذا الأمر في استمالة الجماهير وسرقة تأييدهم,
حتي أنه أصبح من الشائع أن تحصل بعض الجماعات الدينية علي دعم الشارع دون دراسة لبرامجها أو تمحيص لأفكارها, ولكن لمجرد القبول بالشعار الديني العام الذي تطرحه تلك الحركات فيلتف حولها البسطاء الذين لا يملكون رؤية التغيير ولا فلسفة الأداء, حيث يجري الخلط بين التدين في العبادة والتطرف في السياسة,
وأستطيع أن أقول إن الأمر في النهاية يحقق لهم مايريدون بابتزاز مشاعر الشارع المصري واستنزاف قدراته, من هنا فإنني علي يقين من أن تمييز الدين عن السياسة أمر له أهميته في التراث الإنساني الإسلامي.
المحور الثاني: العلاقة بين السلطة والثروة
لقد تفتحت شهية بعض أصحاب رؤوس الأموال والرموز البارزة في القطاع الخاص نحو الانتخابات البرلمانية بشكل غير مسبوق, ولا بأس في ذلك أيضا ولا اعتراض عليه فهم شريحة مؤثرة في المستقبل السياسي للوطن في ظل النظام الاقتصادي الحر وإعمال آليات السوق, ولكن الشيء المقلق هو ذلك الاشتباك الذي يظهر أحيانا بين السلطة والثروة سواء كانت تلك السلطة تنفيذية أو تشريعية ولا أقول قضائية, لذلك فإن مانشعر به أحيانا من مخاوف لا ينبع من الدور السياسي للثروة الوطنية فهو دور ظاهر في كل الانتخابات علي امتداد خريطة العالم كله, ولكن الذي يبدو محل انتقاد هو محاولة بعض العناصر تجاوز الخطوط الفاصلة بين السلطات ومحاولة التأثير عليها.
المحور الثالث: العلاقة بين الماضي والمستقبل
إذا كان الحاضر يمثل قنطرة التواصل بين الماضي والمستقبل فإن الاشتباك التاريخي في العقل العربي والمصري تحديدا بين بعض ذوي الحيثية في تاريخنا الحضاري وبين من يؤثرون في الواقع المصري يبدو أمرا لا تشكيك فيه, ولكن الفكر الماضاوي واستخدام الماضي ذريعة لضرب المستقبل وانتشاله كاملا والهرب به, بينما الأصل في البلاد والعباد هو أن يكون الماضي بمثابة مخزون حضاري يقظ وألا يكون دور الآخرين هو مجرد التباكي عليه, فالحلول الصحيحة لترتيب العلاقة بين أبناء الوطن الواحد تحتاج الي تصور مشترك لكل الأطراف, ويكفي أن يتجول الإنسان لبضع دقائق في الشارع المصري لكي يتكشف له الي أي حد تدهورت القيم وغابت التقاليد وأصبحنا أمام تجمع بشري مختلف يحتاج منا الي دراسة وتحليل,
فالقوي الاجتماعية الصاعدة ليست بالضرورة وريثة لقوي سابقة بل إن الساحة تفرز مع الوقت نوعيات جديدة من البشر وقياداته وتظل لغة المستقبل حائرة بين فكر الماضي وضغوط الحاضر, وهو أمر لابد من حسمه وإظهار حقيقته.
المحور الرابع: العلاقة بين الأغلبية والأقلية
الأصل في الفلسفة الديمقراطية أنها عملية سياسية تساعد علي تمثيل إرادة الأغلبية وتوصيل صوتها الي جهاز الحكم دون أن تسقط في الوقت ذاته مصالح الأقلية, ويعتبر الفيصل بين الأغلبية والأقلية عدديا بالدرجة الأولي ولا يعبر عن موقف سياسي دائم ومسبق, فنحن ضد طغيان الأغلبية وضد عناد الأقلية أيضا, وندعو الي درجة من التوازن بينهما تسمح للحياة السياسية السليمة بأن تمضي في طريقها نحو الأهداف العليا للمجتمع والغايات السامية للدولة لذلك يجب أن يدرك الجميع أن النهضة من صنع الأغلبية والأقلية معا, كما أن التدهور هو خلاصة للأغلبية والأقلية معا أيضا.
المحور الخامس: العلاقة بين الفرد والمؤسسة
إن ضعف المؤسسة وتزايد دور الفرد أمر لا يعبر عن تقدم المجتمع وشيوع المشاركة السياسية فيه, فالملاحظ أن دور الفرد عندما يطغي يكون مؤشرا لغياب الأسس والقواعد التي يجب العمل وفقا لها والمضي علي طريقها بحيث تكفل التوازن الكامل بين نشاط الفرد ودور المؤسسة, فلا يمكن تصور سيطرة الفرد المطلقة علي مقدرات مؤسسة يقودها لأن ذلك يعني اختزال المؤسسة كلها في فرد واحد, كما أنه يدل علي فكر مختلف وفلسفة ليس هذا زمانها, ويجب أن يكون في الحسبان أن تقدم الأمم وانصهار المجتمعات يقاس بمدي ذوبان الفرد في المؤسسة وليس سيطرته عليها بحيث ينتمي الفرد في النهاية لمؤسسته لا أن تنتمي المؤسسة للفرد الذي يقودها.
.. تلك هي معايير خمسة كاشفة لسيناريوهات المستقبل لا يمكن تجاوزها أو التخلي عنها, لأن مصر مرتبطة بهذه الاشكاليات الخمس في أية محاولة لاستشراف المستقبل واستكشاف مايدور فيه, ونحن حين نستطلع طريقنا نحو ذلك المستقبل فإننا نؤكد أن مصر مطالبة بأن تحسن أمرها وأن تتخذ عددا من المواقف السياسية الواضحة لفك الاشتباك بين أطراف المعادلة في المعايير الخمسة السابقة, وهي حين تفعل ذلك إنما تفتح الأبواب أمام افاق جديدة يجب أن ترتادها مصر فهي قوة مركزية محورية ينبغي أن تعتمد علي قواعد راسخة وواضحة بحيث تكون الهوية المصرية أمرا لا يحتاج الي تفسير, علي اعتبار انها هوية مركبة انصهرت في بوتقة الزمان منذ الاف السنين, إن مصر مطالبة بأن تطل علي العالم برؤية جديدة وفكر عصري وروح مختلفة,
كما أن سيناريوهات المستقبل المصري تدور حول الإمكانات الكبيرة لهذا البلد الذي يستحق كثيرا أفضل مما هو عليه ويستوجب قدرا متزايدا من الاهتمام بالربط بين مخزونه الحضاري الضخم ومستقبله الإنساني الواعد, ونحن ندرك أن الطريق ليس سهلا وأن المشكلات كثيرة, كما نعترف بأن الظروف الدولية والإقليمية
والأوضاع الداخلية تنتقص كلها من قدرة الوطن علي تذليل العقبات واجتياز الصعاب وتحقيق الغايات ولكن الأمر الذي نتفق عليه جميعا هو أن صحوة مصر سوف تكون صحوة للمنطقة كلها مثلما كانت غفوتها وبالا علي العرب في ماضيهم وحاضرهم وربما في مستقبلهم أيضا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/11/15/WRIT1.HTM