يجتذب الحزب الوطني الديمقراطي الأغلبية الساحقة من المنتمين سياسيا في مصر لأسباب كثيرة يقع في مقدمتها أن زعيمه هو رئيس الدولة, كما أن هناك شعورا تاريخيا يعيش به المصريون فحواه أن حزب السلطة هو الأضمن وهو الذي تلبي طلباته وتتحقق مصالحه, ولعل الخبرة التاريخية لمصر الحديثة تؤكد ما نذهب, إليه فعندما انتقل الرئيس الراحل السادات من حزب مصر إلي الحزب الوطني الديمقراطي تبعه الكل تقريبا, ومازلت أذكر أن زميلي في وزارة الخارجية في ذلك الوقت قد حكي لي حواره مع أبيه والذي كان عضوا بارزا في الأمانة العامة لحزب مصر, وهرول مع المهرولين نحو الحزب الوطني الديمقراطي عندما أعلن قيامه الرئيس الراحل السادات, لقد قال الدبلوماسي الشاب ـ وقتها ـ كيف يحدث هذا يا أبي وتنتقل من حزب إلي حزب بين يوم وليلة مع كل من فيه تقريبا؟ فقال له أبوه الذي يحمل علي كاهله تراث القرية المصرية عبر سبعة آلاف عام: يا بني انك لا تفهم مصر جيدا,
اننا يجب أن نمضي دائما خلف الرئيس اينما ذهب!, وأضاف قائلا أن الله سبحانه وتعالي قد أرسل الأنبياء لأقوامهم, وعندما جاء دور مصر خاطب الله نبيه موسي وأخاه هارون قائلا إذهبا إلي فرعون.. ولم يقل إذهبا إلي قوم مصر, لذلك فاننا نسعي يا بني كما تعلمنا عبر التاريخ نحو صاحب السلطة الجالس علي مقعد الرئاسة كذلك تعودنا وهكذا سنستمر, وليس ذلك جديدا علي بلد تعود علي ثقافة الاستفتاء وفكر المبايعة, فمصر تبدأ الآن التعرف علي مفهوم التعددية السياسية وحتي حزب الوفد بتقاليده الليبرالية كان هو حزب الاغلبية الكاسحة(1919 ـ1952) لأنه حزب الوحدة الوطنية الذي يمثل الوعاء الكبير لمطالب الأمة في الاستقلال والدستور, وأنا أقول ذلك الآن ونحن مقدمون علي انتخابات برلمانية يتحدد بها شكل السلطة التشريعية لسنوات قادمة وقد يكون من المفيد أن نعرض لقضية التوازن السياسي والبرلماني من خلال النقاط التالية:ـ
أولا: ان مفهوم الأغلبية السياسية لم يعد بالضرورة هو تلك الأغلبية الكاسحة التي تمثل سيطرة حزب علي الحياة السياسية برمتها بل أصبح الأمر مختلفا إذ يدور حاليا حول الأغلبية المعقولة ذات التأثير الإيجابي الذي يسمح للحياة البرلمانية بأن تكون مؤثرة ومنتجة ويجعل النشاط التشريعي والرقابي ملكا لكل القوي السياسية وليس حكرا علي إحداها, ولو نظرنا إلي الأغلبية الحزبية في برلمانات العالم لوجدناها تدور حول أرقام متواضعة لا تزيد علي النصف كثيرا بل إن الائتلافات السياسية أضحت سمة عصرية شائعة التطبيق في الديمقراطيات المعاصرة.
ثانيا: ان اسلوب الانتخابات النيابية قد أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الأخذ بنظام القائمة النسبية هو الأفضل للحياة السياسية لأسباب كثيرة يقع في مقدمتها أنه يسمح باختيار الأحزاب للعناصر الأكثر كفاءة ونزاهة واستعدادا للخدمة والتضحية, كذلك فإن نظام انتخابات القائمة يعزز من دور الأحزاب السياسية ويقويها ويؤكد أهمية الانضباط الحزبي والإحكام التنظيمي للاحزاب المشاركة في العملية الانتخابية, كما أن انتخابات القائمة تسمح بتخصيص المقاعد للفئات المحرومة من حق التمثيل النيابي في ظل الانتخابات الفردية, وسوف يكون الرد جاهزا كلما تعرضنا لهذا الموضوع وهو أن القائمة قد تجر إلي عوار دستوري أدي إلي حل البرلمان المصري مرتين متتاليتين في ثمانينيات القرن الماضي, لذلك فإنني أعتقد أن الأخذ بنظام القائمة النسبية يجب أن يتم بعد مشاورات دستورية واضحة وتوافق وطني عام.
ثالثا: ان التيار الاصلاحي الذي بدأ يقوي علي مسرح الحياة العامة المصرية يقترب في تفكيره من المفهوم الصحيح للديمقراطية ويمضي علي وتيرة التغيير الايجابية خصوصا أننا في مرحلة تحول نخرج فيها من مناخ سياسي إلي مناخ مختلف تزدهر فيه لغة الحوار وتقوي المساحة المتاحة للرأي الآخر ويصبح البرلمان تعبيرا حقيقيا عن الشعب.. كل الشعب.
رابعا: ان الحياة السياسية كل متكامل, والنظام السياسي يتكون من أحزاب في الحكم وأخري خارجه لذلك فإن التوازن البرلماني مطلب أساسي في مستقبل الديمقراطيات إذ لايمكن أن يكون هناك من يتصور أنه يحتكر وحده المعرفة والحكمة وأن سواه يجب أن يتبعه بغير تردد, لذلك فإن حزب الأغلبية هو المسئول عن تحريك المعادلة وتهيئة المناخ والقيام بعملية إحلال سياسي للقوي البديلة التي تتمثل في الدماء الجديدة التي يجب أن تضخها الأحزاب وتدفع بها إلي مسرح الحياة السياسية.
خامسا: ان الحياة الحزبية في مصر لن تعرف القوة والازدهار إلا من خلال الانسجام الداخلي والمساواة الكاملة أمام الإجراءات والسياسات, وأنا هنا أؤكد ان فاقد الشئ لا يعطيه ولذلك فإن الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب ذاتها هي السبيل والوحيدة لإثراء الحياة السياسية في الوطن كله, ولا يتصور أحد أننا يمكن أن نتحدث عن نظام سياسي سوي يستأثر فيه البعض بمعظم المزايا والتسهيلات بينما يعاني الباقون من صعوبة تطبيق الأفكار وتنفيذ الإجراءات.
.. إننا أمام منعطف تاريخي في حياتنا السياسية ونقطة تحول مهمة في مسيرة الديمقراطية في بلادنا وهو ما يلزم معه أن نعتمد علي العناصر الأساسية للإنطلاق الحقيقي نحو مستقبل أفضل فقد حان الوقت الذي يجب أن يسود فيه مناخ مختلف وثقافة مجتمعية جديدة تسيطر عليها روح العصر وتخرج بها من عباءة الفكر الأحادي إلي النظرة المنفتحة علي كل المواقف والآراء والأفكار, إننا باختصار محتاجون إلي نقلة نوعية تتحرك بنا نحو مستقبل يعتز فيه الفرد بقيمته ويباهي المجتمع بقيادته ويفخر الشعب بمجلسه النيابي, إنني أظن أننا بحاجة إلي التخلص من فقه التفرد وفكر الكاريزما والانتقال نحو الدولة المصرية العصرية وليس ذلك أمرا بعيد المنال أو صعب التحقيق إذ أنه يعتمد علي أدوات سياسية حديثة يمكن تحديدها في ثلاث خصائص رئيسية هي: ــ
1 ــ المصداقية حيث تتحكم درجة صدق النظام السياسي في مدي القبول العام له واحترام أسلوب أدائه وكيفية التعامل معه ولا تتحقق المصداقية إلا بتراكم الخبرات واستكمال المفاهيم تجاه الحكم والسياسة معا لذلك فإن التجربة هي الفيصل في تحديد إطار المصداقية لأن خداع الجماهير والعبث بمشاعرها وسرقة امالها هي كلها عوامل من شأنها أن تودي بالثقة المطلوبة بين السلطة والشعب كما تحول دون التوازن السياسي المطلوب...
2 ــ الشفافية إن وضوح الحقائق والسرعة في كشف الملابسات والتوقف عن ترك الناس تخمن وتضرب أخماسا في أسداس هي كلها أمور مهمة لكشف مواقع الفساد وخلق مناخ الثقة بالمعلومة الصادقة السريعة علي نحو يقضي علي الشائعات في مهدها ويجعل الخبر الصحيح في متناول الجميع دون إخفاء أو تمويه.
3 ــ الجدية إذ تعمل السلطات الدستورية الثلاث بالجدية اللازمة فإذا بدأت عملا استمرت فيه وواصلت السعي علي طريقه ويجب أن نعترف أن لدينا مشكلة حقيقية وهي أننا غالبا ما نبدأ الطريق ولكن لا نستمر فيه ولا نستكمله وتلك خطيئة كبيرة عانت منها أمم كثيرة وشعوب متعددة.
.. إنني أريد أن أقول من هذا كله وفي إطار الظروف التي يمر بها الوطن المصري وتتوالي فيها الأفكار الإصلاحية أن الطريق مفتوح أمامنا ولم تعد هناك محاذير أو مخاوف تحول دون تحقيق المصالح العليا للشعب الذي يستحق حرية كاملة وديموقراطية حقيقية وبرلمانا قويا يتجاوز بأعضائه خبرة عمره الذي يصل إلي قرن ونصف من الزمان!..
تعقيــــــب
تعكس أحاديثي وكتاباتي الاهتمام الشديد بقضية المصالحة الوطنية بين أحقاب تاريخنا الحديث, وقد كررت في مناسبات مختلفة أن عبد الناصر قامة قومية شامخة وأن السادات رجل دولة من طراز فريد كما أن حكم أسرة محمد علي حافل بالايجابيات, لذلك أدهشني كثيرا أن يندفع المحرر الدبلوماسي للأهرام بتعليق سلبي علي مقال لي ــ نشره الأهرام في العيد الخمسين لثورة يوليو منذ أكثر من ثلاث سنوات, ثم أعاد نشره بمناسبة الانتخابات الرئاسية الحالية ــ خصوصا وأن المحرر قد اختزل الفكرة وابتسر المعني واختار عنوانا تحكميا مسيئا وهو أمر اعتبره تجاوزا يفتقد الموضوعية ولا يبرأ من سوء النية, كما أنه يكشف عن تأويل مغلوط للنص مغ غياب الرؤية وقصور المعرفة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/8/30/WRIT1.HTM