لقد تحدث الخبراء- عبر تاريخنا الحديث-وأفاض الجغرافيون وأشار الاستراتيجيون إلي شبه جزيرة سيناء وعلاقتها بالوطن الأم علي اعتبار أنها مثلث آسيوي تزدان به خريطة الوطن المصري منذ طفولة التاريخ, كما احتشدت الأفكار وتكررت الدراسات حول أهمية تعمير سيناء وتحويلها الي بقعة مأهولة بالسكان, وقد أثارت تفجيرات طابا في أعياد اكتوبر2004 وتفجيرات شرم الشيخ في أعياد يوليو2005 اعادة فتح الملف بشكل مختلف تحيط به التطلعات والتحديات والمخاوف, فالقضية أصبحت ذات بعد سياسي خطير ولم تعد مجرد تطور عمراني محدود, ولعلنا نغوص في اعماق هذا الموضوع من خلال تناول العناصر التالية:-
أولا:- ان سيناء هي البوابة الشرقية لمصر, منها عبر الغزاة وجاء الطغاة ووصل الولاة كذلك كانت لفترات طويلة هي الصحراء العازلة لعمق الوطن المصري بعيدا عن اسباب الخطر ومصادر التهديد وظل الامر كذلك حتي تم شق قناة السويس في القرن التاسع عشر كمانع مائي لعب دورا مهما في تحديد ملامح الجبهة الشرقية للأمن القومي المصري, وعندما فكر عرابي- اثناء مواجهته للاحتلال القادم- في ردم القناة فإنه كان يسعي الي افقاد خصومه ميزة ذلك الممر المائي الدولي الكبير.
ثانيا:- لقد لعبت سيناء أرض الفيروز دورا بارزا في التمكين للدفاعات الشرقية عن أمن الوطن بصحاريها وجبالها والتخوم التي تلامس حدودها, منها جاء الهكسوس وحاول التتار وعبر الصليبيون أي أن اهميتها التاريخية ترتبط بالشخصية المصرية ارتباطا وثيقا يصعب الجدل فيه أو التخلي عنه.
ثالثا:- ان التركيب البشري لشبه جزيرة سيناء يرتبط بهجرات البدو من الدول العربية المجاورة وخصوصا فلسطين والاردن حيث تمتد القبائل وتتشعب ولا تعرف الحدود الجغرافية او القوانين الملزمة إلا بالقدر الذي يتيح لها احترام خصائص المواطنة لدولة الجنسية, وبدو سيناء بهذا المعني هم مصريون عاشوا الحروب الاربع بين مصر واسرائيل وغابوا عن احضان الوطن الام سنوات الاحتلال لذلك فإن التعامل معهم ينبغي ان يكون محكوما بفهم ظروفهم وطبيعة حياتهم واضعين في الاعتبار أن أغلي ما يملكه البدوي هو كرامته.
رابعا:- ان تفجيرات طابا في اعياد اكتوبر2004 قد صنعت مواجهة بين مجموعات من بدو سيناء من جانب واجهزة الامن المصرية من جانب اخر وتفاقمت علي نحو يدعو الي القلق بسبب حساسية المنطقة جغرافيا وأهمية بدو سيناء في الحرب والسلم معا وأنا استطيع هنا ان انتحل بعض العذر للشرطة المصرية لانها متروكة وحدها تحارب الارهاب والجريمة والفساد بينما العمل السياسي والحزبي متراجع الي حد كبير وأضيف الي ذلك ان ولاء بدو سيناء لوطنهم الام يجب الايكون محل تشكيك فقد تعاونوا دائما مع الاجهزة المصرية من أجل تحرير سيناء واستعادة الارض الطيبة.
خامسا: ان سيناء التي كانت مسرحا لعمليات عسكرية متوالية ما زالت مستودعا للسلاح والمتفجرات سواء كان ذلك بالاساليب المشروعة او التهريب المتبادل وهو ما يعني ان تفجيرات شرم الشيخ هي امتداد لتفجيرات طابا من حيث الاسلوب والتوقيت والفارق بينهما هو الفارق بين أعياد اكتوبر وأعياد يوليو! ولقد كان وزير الداخلية المصري محقا عندما تحدث عن التشابه بين الجريمتين فور وصوله الي مدينة شرم الشيخ بعد وقوع الجريمة الارهابية النكراء فيها, وأنا هنا أنبه الي أن التطرف والعنف موجودان في كل مكان ولكن الذي يذكي دوافع الجريمة هو مجموعة الضغوط والحساسيات والاوهام التي تحيط بالعقول المدبرة والسواعد المجرمة.
سادسا: ان سيناء جزء غال من الوطن المصري يربط اسيا بأفريقيا ويتداخل سكانيا مع مواطني مدن القناة, ولقد عرفت مصر منهم شخصيات مرموقة وما زلت أذكر ان مدير المخابرات الحربية المصرية كان ضابطا كبيرا من أبناء القبائل في شمال سيناء بل انني الحظ من أعضاء مجلس الشعب نواب سيناء حماسهم الوطني وفهمهم الدقيق لظروف الوطن وأوضاعه ولقد دعاني أحدهم الي عرس شقيقه في أحد نوادي القوات المسلحة بالقاهرة ولاحظت اندماجهم في المجتمع المصري وتوحد الاعراف والتقاليد لذلك آمنت دائما بالانصهار السكاني الذي تختلف به الكنانة عن غيرها ووحدة العنصر البشري الدائم فوق أرضها.
سابعا:- ان سيناء هي الظهير الجغرافي- من الناحيتين الطبعية والبشرية- للوطن الام مصر وسكانها يدركون أهمية دورهم ويتفاعلون مع الاحداث الوطنية سلبا وايجابا, لا يفرطون في تراب الوطن ويحافظون علي الكبرياء القومي ويجيدون- خصوصا في السنوات الاخيرة- أساليب التعامل مع السائح الاجنبي بل اننا نذكر بالفضل حفلاتهم البدوية الليلية في الجبال علي مشارف شرم الشيخ وهي التي أنقذت حياة العشرات من الاجانب في ليلة حادث التفجير المشئوم ولذلك فإنني أظن ان عرب سيناء كانوا دائما أكثر حرصا علي الاستقرار ورغبة فيه طلبا للرزق وسعيا نحو تنمية اقليمهم المتميز.
ثامنا: ان التخطيط المصري لتعمير سيناء لم يحقق أهدافه حتي اليوم فهي مازالت غير مأهولة بالسكان كما يجب, فضلا عن ان كثيرا من المشروعات التنموية والعمرانية لم تأخذ طريقها الي التنفيذ وأنا هنا أريد أن أقول ان تنمية سيناء وتكثيف الوجود البشري فيها ليست مسألة برامج اصلاحية فقط ولكنها قضية أمن قومي بالدرجة الاولي فسيناء يجب ان تكون دائما ساحة مستعدة وليست مضمارا للانسحاب العسكري مهما كانت الظروف.
تاسعا: ان قناة السويس التي أقامت حاجزا مائيا يفصل بين الوطن وشبه جزيرة سيناء قد أسهمت علي الجانب الاخر في تقوية الاواصر وتعزيز الصلات ورفع مستوي المعيشة للمناطق المحيطة خصوصا ان الارتباط بين مدن القناة وأبناء سيناء قد أصبح متاحا الان بالانفاق والكباري علي نحو غير مسبوق.
عاشرا: ان موجة الاصلاح التي يجتاح الوطن تعطي تأكيدا كبيرا لاهمية سيناء وضرورة التركيز علي تنمية المجتمع السيناوي ورفض محاولات الوقيعة بين ابناء الوطن مع التركيز علي الاعمار في مواقعها والانتشار في مدنها ومناطقها المختلفة واعتبار ذلك مسئولية قومية ذات أولوية حاكمة علي مستقبلنا كله.
.. هذه محاور للتفكير والدراسة حول شبه جزيرة سيناء وأهميتها من النواحي الجيوبوليتكية والبشرية ولعلي أسجل هنا أن حجم الاعمار ونوعية التنمية اللذين تحققا منذ تحرير سيناء هما أمران لا تخطئهما العين ولكن ذلك لا يعني أننا قد أعطينا لسيناء ما تستحقه ويكفي أن نتذكر هنا اننا بلد مزدحم بسكانه ويحتاج الي اعادة توزيع الكتل البشرية فيه ولعل سيناء هي أحدي المناطق ذات الاولوية لامتصاص الفائض السكاني المصري واذا فعلنا ذلك فإننا نكون كمن يضرب عشرة عصافير بحجر واحد سواء كان ذلك متصلا بالنواحي الاستراتيجية والامنية او النواحي السياسية والاقتصادية او النواحي الثقافية والاجتماعية, اذ ان سيناء الاهلة بالسكان والتي تحتشد فيها المدن وينتشر العمران وتزدهر التنمية هي بالضرورة درع الوطن ورصيده امام الاطماع السياسية والمغامرات العسكرية.. هذه خواطر نسوقها تحية لمدينة شرم الشيخ ملتقي الزعامات ومنارة السلام التي كنا نتيه بها ونفاخر وسوف نظل كذلك دائما.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/8/16/WRIT2.HTM