سيطر انطباع دائم في الكتابات الأوروبية والروايات الغربية عن وجود التماسيح والحيتان في مياه النيل ويبدو أن ذلك الانطباع الأدبي الذي استحوذ علي العقلية الأجنبية تجاه النيل الذي يجري في أرض السودان الواسعة قد تحول الي حقيقة سياسية يعيشها السودان منذ عشرات السنين, فالضغوط عليه قوية والصراعات حوله متلاحقة وكأنها بالفعل تمثل صراع حيتان ـ كبيرة وصغيرة
ـ حول أكبر دول القارة الافريقية مساحة وربما أكثرها ثروة أيضا, فالأرض والمياه يصنعان معا الأمل في الحياة! والمسألة السودانية تمثل هاجسا افريقيا عربيا علي امتداد القرنين الماضيين حتي طرحت التطورات الدولية والاقليمية تصورات جديدة حول السودان ومستقبله علي نحو يحتاج الي معالجة غير تقليدية لذلك الشأن المهم استراتيجيا وسياسيا وهو ما نوجزه في النقاط التالية: ـ
أولا: ـ إن المسألة السودانية عرفت غالبا المعالجة التقليدية وأصبح نمط التفكير فيها مكررا بل إن المصريين علي وجه خاص يتناولون الحديث عنها من منطلقات تاريخية أحيانا وشعارات عاطفية أحيانا أخري, بينما المطلوب هو أن تتحول المسألة السودانية إلي معادلات عقلانية تضعها في الاطار الواقعي الذي يجب أن تكون عليه.
ثانيا: ـ إن سودان الثروة يتعارض مع سودان السلطة ولعل التفاوت بينهما جغرافيا وتاريخيا هو المسئول الي حد كبير عن الأوضاع المتردية والعلاقات المضطربة بين أطراف التركيبة السودانية, فالجنوب قد يكون غنيا بثرواته, ولكن مشاركته في الحكم السوداني كانت دائما أقل مما يستحق والشمال العربي ظل يختزل مفهوم الدولة السودانية في إطاره هو وحده وكأن باقي السكان هم عناصر هامشية مكملة.
ثالثا: ـ إن التراكم التاريخي للحساسيات المصطنعة بين السودان وبعض جيرانه وفي مقدمتهم مصر هو أمر ترك بصماته علي الحاضر بل والمستقبل وأصبح ينذر دائما بحالة الابتعاد التي تصل أحيانا إلي درجة القطيعة لذلك ينبغي في هذه الحالة أن يفكر الأشقاء السودانيون بطريقة مختلفة وأن يضعوا كل ما جري في اطاره الزمني وظروفه التي عايشته, فالوجود الأجنبي غرس كثيرا من الخناجر المسمومة في جسد وادي النيل خصوصا عندما رفع شعار فرق تسد.
رابعا: ـ لقد عاني السودان دائما من الحلقة الشريرة التي جعلت التناوب بين السلطة العسكرية والحكم الديمقراطي دورة متكررة يدركها كل متابع للشأن السوداني الحديث حتي لا نكاد نجد نموذجا لدولة أطبقت عليها هذه الحلقة الشريرة إلا باكستان حاليا وتركيا من قبل, ومثل هذا النمط السياسي لا يبشر بالخير لأنه يعني النكوص عن نموذج الدولة الحديثة والتراجع الي الدولة الأوتوقراطية بصورة تؤدي الي ضرب الديمقراطية كلما بدت بوادرها.
خامسا: ـ إن الشعب السوداني شعب شديد الوعي كامل الاستنارة لديه ثقافة سياسية واسعة فما قام به في الحادي والعشرين من أكتوبر عام1964 ضد حكم الرئيس الراحل ابراهيم عبود مازال يمثل النموذج الواضح لحالة العصيان المدني كما يشير اليها القاموس السياسي, وأحسب أن السودانيين قد كرروا شيئا من ذلك عندما أسقطوا أيضا حكم الرئيس السابق جعفر نميري عام1985, فالشعب السوداني شعب أبي يؤمن بالديمقراطية ويقاوم الاستبداد.
سادسا: ـ إن الأطماع الخارجية التي تستهدف السودان ظلت دائما تتربص به وتسعي للسيطرة عليه وتقسيمه في ظل دعاوي طائفية وضغوط اقتصادية وحروب عرقية والذين يريدون للسودان ألا يقوي ويزدهر إنما يتطلعون لتمزيقه الي دويلات في الشمال والجنوب والشرق والغرب, كما أن مشكلات السودان الحدودية مع جيرانه لا تبدو هي الأخري أمرا هينا في ظل الاضطراب والتوتر الذي يسود معظم دول الجوار وهو أمر يلزم السودان بضرورة تبني أطروحات واقعية والتوقف عن تغذية الصراعات بين جماعاته البشرية وطوائفه القومية, وأنا ممن يظنون أنه لا يوجد تعارض بين عروبة السودان وإفريقيته وهذا يقودنا الي إدراك أهمية التعددية والاعتراف بها في ذلك البلد الشقيق.
سابعا: ـ لقد عرف السودان تطورات أخيرة أوقفت نزيف الدم في صراع الشمال والجنوب ولو مؤقتا وقد تدخل به الي مرحلة الاستقرار النسبي لو توصلنا لحل عاجل لمشكلة دارفور وهو أمر لن يتحقق بغير ضمانات تؤكد وحدة السودان الاقليمية وتعترف به دولة ديمقراطية في ظل التعددية التي يمكن أن تكون ميزة له وليست نقمة عليه, فالتنميط ظاهرة كونية مألوفة كما أن التعددية حقيقة بشرية يصعب إغفالها خصوصا في هذه المرحلة ذات الحساسية من تاريخنا العربي والافريقي.
ثامنا: ـ إن المأساة الحقيقية تكمن في جهل الجيل الجديد في كل من مصر والسودان بالمسلمات التاريخية ومفردات وحدة وادي النيل لأن تدهور العلاقات بين البلدين في العقد الماضي قد أدي الي تشويه صورة كل منهما لدي الآخر فضلا عن غيبة التواصل وانعدام الحوار وفقدان الثقة المتبادلة بصورة أدت في النهاية الي الأوضاع التي تردت اليها علاقات القاهرة والخرطوم منذ عدة سنوات, ولقد حان الوقت لإبعاد المشكلات السياسية عن مسار العلاقات العميقة بين الشعبين.
تاسعا: ـ إن التلويح بقيام دولة إسلامية في شمال السودان هو الذي يتحمل المسئولية الكبري في متاعب السنوات الأخيرة فالمخاوف تزايدت بسبب التوجه الجديد للحكومة السودانية منذ وصولها الي السلطة عام1989 كما أنني أقول ـ وبكثير من المرارة ـ أن بعض السياسيين في شمال السودان لم يعط قضية الوحدة أهميتها بل استسلم لمحاولات فصل الجنوب عن الشمال والخروج علي الحدود المرسومة للدولة السودانية كما تركها الاستعمار البريطاني ذاته وكما التزمت بها منظمة الوحدة الافريقية غداة تكوينها عندما قررت الاعتراف بالحدود بين الدول الافريقية, كما هي ودون تغيير حفاظا علي وحدة القارة وسلامة شعوبها.
عاشرا: ـ إن التعامل المصري مع السودان يتسم بقدر كبير من الخصوصية, فالشارع المصري لا تهزه أحداث مثل تلك التي تجري بينه وبين السودان لأسباب متعددة ليس أهمها الجوار وليس أقلها مسألة المياه, فالشراكة الانسانية عبر العصور بين البلدين كانت دائما متجاوزة للأحداث الطارئة والمشكلات العابرة.
.. هذه نقاط موجزة أردنا أن نستخلص منها عناصر تشكيل المسألة السودانية وطبيعة الأطماع التي تحيط بتلك الدولة الصاعدة لايقاف عجلة التطور فيها والإبقاء عليها متخلفة وعاجزة, وسوف يظل صراع الحيتان يهدد السودان من كل اتجاه, ونحن هنا في مصر نريد سودانا مستقرا يرتفع فيه مستوي المعيشة ويتواري معه الفقر والتخلف وتزدهر به الديمقراطية التي توجها السودانيون أخيرا بإلغاء العمل بقانون الطواريء وفتح باب المصالحة الوطنية والدخول في مرحلة الوفاق الشعبي الذي احتاج إليه االسودان دائما, إننا في مصر قد حرصنا دوما علي سياسة متوازنة بين شمال السودان وجنوبه وظلت مسئوليتنا مستمرة تجاه ترابه الوطني الواحد
فنحن الذين رفضنا توقيع العقوبات الدولية عليه بعد حادث أديس بابا في يونيو1995 لأن ذلك البلد الشقيق الذي احتوي أكبر كلياتنا العسكرية في جبل الأولياء بعد هزيمة1967, لذلك فنحن أيضا الذين نؤمن بأن الأمن الاستراتيجي للسودان يبدأ من سواحل البحر المتوسط مثلما يمتد الأمن الاستراتيجي المصري الي منابع النيل, وليدرك الجميع أن الاتفاقات الدولية والارتباطات الرسمية لا تدوم غالبا ما لم تكن مدعومة برؤية موضوعية ونظرة واقعية ومناخ سياسي صحي يعرف الاستقرار ويدرك قيمة الجوار.. انه السودان الذي تعلمنا منه وفهمنا عنه أن الأوطان هي صانعة الانسان مهما سبحت التماسيح أو كثرت الحيتان!!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/7/19/WRIT1.HTM