وجهت تعليقا لوزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس فور انتهائها من إلقاء محاضرتها بقاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية في القاهرة, أشرت فيه إلي ماذكرته من أن الأنظمة العربية قد حرمت شعوبها من الحرية, وعطلت الديمقراطية بدعوي الحفاظ علي الاستقرار والاستمرار في سياسة تسكين الأوضاع, لأنه لاصوت يعلو علي صوت الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي عصف بالمنطقة علي امتداد خمسة عقود أو مايزيد, وأضفت لوزيرة الخارجية الأمريكية أنني أظن أن الحل العادل للقضية الفلسطينية سوف يعطي دفعة قوية لحركة الإصلاح والتغيير في المنطقة العربية, وسوف يكون داعما للحريات, مساندا للديمقراطيات, فردت علي الوزيرة بتأكيد ماقلت وأضافت أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعي لتسوية الصراع في الشرق الأوسط في أقرب وقت,
وأضافت أن الرئيس الأمريكي الحالي جورج دبليو بوش هو أول رئيس أمريكي يتبني رسميا قيام دولة فلسطينية ديمقراطية, ويعمل علي تحقيقها, كما أضافت أنها لاحظت في زيارتها الأخيرة لفلسطين واسرائيل الرغبة المشتركة من الجانبين في دفع عجلة السلام والوصول الي تسوية سلمية, وفقا لخريطة الطريق المطروحة علي الساحة الفلسطينية ـ الاسرائيلية, وقد قلت لها إن الإصلاح الذي يتحدثون عنه, والتغيير الذي يبشرون به لايمكن أن يتحقق في غيبة السلام الشامل والعادل, وأنا لاأعني بذلك أن الإصلاح يجب أن ينتظر حتي يتحقق السلام, ولكن مفهومي هو أن العلاقة طردية بين الاثنين, ولايمكن تجاهل تأثير أحدهما علي الآخر, وتطرح هذه المقدمة أمامنا عددا من الأفكار المرتبطة بها نسوقها فيما يلي:
أولا: لقد اختزل العالم العربي مساره الطويل في قضية واحدة حكمت أسلوب الحكم والنظم السياسية علي أرضه, وأعني بها قضية الصراع في الشرق الأوسط والمواجهة الدامية مع اسرائيل في حروب خمس مضت ومازال السلام بعيدا والاستقرار مفقودا.
ثانيا: لقد دفعت معظم الدول العربية ضريبة فادحة ثمنا للاستقرار المزعوم, الذي لم يعطل الديمقراطية وحدها بل أصاب التنمية بشكل سلبي في جميع مجالاتها, فأنا ممن يعتقدون بالارتباط بين التنمية والديمقراطية علي نحو يصعب التشكيك فيه.
ويتعين علينا أن نعترف هنا بأن معظم النظم العربية قد دفعت فاتورة غالية للصراع الدائم في المنطقة ومازالت تواصل تضحياتها من أجل السلام والأمن والاستقرار.
ثالثا: إن هناك خلطا في عالمنا العربي بين حالتي الاستقرار والسكون, فالاستقرار يقوم علي أسس صحية لمجتمعات سوية تختفي منها الصراعات, وتنتفي معها التناقضات, أما السكون فهو حالة استاتيكية لاتعني إلا الجمود والترهل وانعدام القدرة علي التغيير أو تجديد الدماء, أنها نوع من التليف السياسي الذي لاعلاج له, ولاشك ان ذلك الخلط قد زيف الحقائق وضرب الحريات ولم يأت بالاستقرار الحقيقي.
رابعا: إن العلاقة بين الاستقرار والسلام علاقة تبدو في ظاهرها متباعدة ولكنها في واقع الأمر تعبير عن الارتباط الوثيق الذي يشكل الإصلاح, قنطرة الوصل فيه, فالاستقرار الزائف يعيش في ظل الأوضاع الاستثنائية والظروف غير العادية, ويبدو نوعا من السكون العابس, أما الإصلاح المستقر فهو لايتحقق كاملا إلا عندما ينال الحقوق أصحابها ويسود العدل في العلاقات بين جميع الأطراف.
خامسا: إذا كان الإصلاح عملية تدريجية ذات جوانب متعددة فإنه يتبقي أن نسأل أنفسنا: لماذا ارتبطت الحركات الإصلاحية بالأجواء السلمية والظروف الطبيعية؟ وهل كان يمكن أن يزدهر الإصلاح في المجتمعات ذات الطبيعة الاستثنائية, حيث يسود العنف المكتوم والغضب الكامن ولاتظهر الحقائق في شفافية ووضوح وهما من أبرز سمات العصر ولوازم الديمقراطية؟.
سادسا: إن ذلك كله لايعني أن يكون غياب السلام الشامل والعادل ذريعة لتأجيل الإصلاح وتعطيل برامجه, ولكن ذلك يدل فقط علي أن السلام عامل مساعد وقوة دفع مطلوبة, ولكنه ليس شرطا أساسيا للإصلاح بل, قد يكون العكس هو الصحيح, فالإصلاح السياسي والاقتصادي قد يؤدي الي نوع من التفوق الذي يؤدي بدوره إلي توازن القوي وتحقيق السلام الشامل والعادل.
سابعا: إن استقراء التاريخ العربي يؤكد أن المجتمعات في هذه المنطقة من العالم قد خضعت لكل أنماط الدولة الأوتوقراطية وعرفت جميع نماذج النظم السلطوية, وعانت كما لم تعان منطقة أخري من العالم نتيجة غياب الحريات ونقص الضمانات المطلوبة للفرد العادي حتي انسحقت كرامة الشعوب وسقطت كبرياء المجتمعات.
ثامنا: إن المناخ السائد في المنطقة العربية ظل دائما يعكس منطق العنف المستمر, فمعظم التغييرات كانت دموية من خلال انقلابات عسكرية متكررة, بينما ظلت فلسفة الإصلاح بعيدة عن العقل العربي لايتعامل معها ولايؤمن بها, وعندما جاءته الفرصة لذلك حاول أن يضيع الوقت في جدل عقيم بين مفهوم الإصلاح من الداخل والإصلاح من الخارج بل زاد علي ذلك التذرع بأن الإصلاح مطلب خارجي تعتبر الاستجابة له نوعا من الرضوخ للضغوط الأجنبية, بينما الأصل في الأمر يكمن في الإجابة علي التساؤل المشروع وهو: هل الإصلاح ضرورة لنا أم لا؟ والإجابة بدهية ولاتحتاج الي إثبات.
تاسعا: لايمكن الحديث عن الإصلاح مجردا عن البيئة المحيطة به والظروف التي يزدهر فيها,, فالاستقرار الحقيقي يحمي تجربة الإصلاح التدريجي بينما السكون المؤقت لايمثل, بيئة حاضنة لأي نوع من الإصلاح, ونحن نري أن النظم العربية في معظمها تراوغ في هذه المسألة وتسعي إلي تأجيل الإصلاح انتظارا لتحقيق السلام في المنطقة, وهي مسألة تبدو مثل كلمة حق يراد بها باطل, ولاتعني شيئا يمكن الاعتداد به أو الاعتماد عليه.
عاشرا: إن الشئ الذي يثير الدهشة ويدعو إلي التأمل هو أن الكل يتحدث عن الإصلاح.. الحكومات والشعوب, الأغلبية والمعارضة, الولايات المتحدة والدول العربية, ولكن كل طرف يعالج الأمر من زاوية خاصة وتكون الضحية في النهاية هي عملية الإصلاح ذاتها.
... هذه ملاحظات عشر ترتبط بقضية العلاقة بين السلام والإصلاح, نخرج منها بعدد من الحقائق يقع في مقدمتها أننا متخلفون أكثر مما يجب, وأن تاريخنا القومي والوطني يجعلنا نستحق وضعا أفضل بكثير مما نحن عليه في المنطقة العربية حاليا, ويكفي أن نتذكر الآن أن الدول الإفريقية الصغيرة في شرق القارة الإفريقية وغربها قد قطعت شوطا لابأس به نحو الديمقراطية الحقيقية والتداول السلمي المنتظم للسلطة, أما نحن أصحاب التراث العريق والحضارة المضيئة فإننا محتاجون الآن ـ أكثر من أي وقت مضي ـ إلي صحوة كاملة بعد غفوة طويلة,
وليعلم الجميع أن الإصلاح ليس عملية منفصلة أو معزولة ولكنها عملية تشتبك بالضرورة مع الخارج, ويكفي هنا أن نتذكر مرة أخري أن تجربة محمد علي في تحديث مصر قد جاءت مرتبطة باشتباك سياسي طويل بل وصراع استراتيجي مستمر مع القوي الإقليمية في الشرق الأوسط وأوروبا, ونحن الآن نعيش عالما بغير حدود أو حواجز وبغير أسوار حمائية سياسيا واقتصاديا وإعلاميا, ولايمكن أن نفكر في مستقبل أجيالنا القادمة في عزلة عن غيرنا, كما يتعين أن ندرك أن الإصلاح طريق إلي السلام, كما أن السلام سبيل إلي الإصلاح, فالعلاقة بينهما وثيقة ولايمكن تأجيل وصول أحدهما انتظارا للآخر لأنهما يلتقيان عند نقطة واحدة هي نقطة التوازن الحقيقي والاستقرار الكامل والرؤية الشاملة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/7/5/WRIT1.HTM