إن الفكر العشوائي لابد أن يؤدي إلي بيئة عشوائية وذلك ما حدث للمدينة المصرية في العقود الأخيرة عندما تزايد السكان بشكل ملحوظ وتحولوا إلي قوة ضاغطة تطلب المسكن للملايين القادمة كل عام, فقامت التجمعات السكانية في حزام يحيط بالعاصمة وبعض المدن الكبري دون تخطيط عمراني أو تنظيم واضح أو توعية شعبية, وعندما تضخمت تلك التجمعات بدأنا نواجه زحفا سكانيا هائلا إليها يبني بغيرضابط ولا رابط بحكم الحاجة إلي المسكن والرغبة في الإيواء فضلا عن ظاهرة الانتقال من الريف إلي الحضر التي تتواكب دائما مع التطور الصناعي والرغبة في الاقتراب من المدينة باعتبارها مركز النشاط التجاري ومصدر الرزق المتاح,
ولقد جمعتني منذ أيام ــ في حفل ثقافي لتكريم الشاعر فاروق جويدة ــ جلسة مع كوكبة من المثقفين والكتاب في دار نقابة الصحفيين وكان لي حديث مع الأستاذ كامل زهيري وهو عاشق تاريخي للقاهرة وعارف بأحوالها وملم بمشكلاتها, فإذا به يفتح الموضوع الذي يؤرقني والذي شعرت بالرغبة في الكتابة حوله, خصوصا بعد أن أطل علينا الإرهاب الكئيب مرة أخري من عشوائيات العاصمة, ولقد كان مما قاله الأستاذ كامل زهيري:( إن خطر العشوائيات يهدد الاستقرار والسلامة والأمن, ما لم نجد حلولا جذرية لتلك المشكلة المعقدة), وقد أثارت تلك المناقشة جزءا كبيرا من اهتمامي بمسألة العشوائيات التي أراها تدور حول المحاور التالية: ــ
أولا: ــ عندما قامت ثورة1952 كان الحديث يدور حول عشوائية محدودة تمثلت في منطقة بين السرايات بجوار حي الدقي ومنطقة بولاق الدكرور كامتداد لها, والحق يقال إن حكومة الثورة عندما أنشأت مدينة نصر فإنها أقامتها بتخطيط سليم ولم تكن مسئولة في مرحلة التخطيط عن الوضع الذي آلت إليه تلك المنطقة حاليا, كما لم يدرك الكثيرون فلسفة البارون إمبان الذي بدأ في إنشاء ضاحية مصر الجديدة عام1905 وفقا لطراز معماري مازال محل إعجاب وتقدير حتي الآن,
ثانيا: ــ يجب أن نعترف بأن المشكلة السكانية تتحمل المسئولية الأولي في تفاقم مشكلة العشوائيات, بل إنه عندما فكر الرئيس الراحل عبدالناصر بعد أزمة1954 في إحاطة القاهرة بحزام من التجمعات العمالية دعما للثورة وتأييدا لسياساته لم يكن يقصد أن يتحول بعضها إلي استقطاب للتجمعات العشوائية إلي جوار المواقع الصناعية, بل إن منطقتي حلوان وشبرا الخيمة كنموذجين للتجمع الصناعي العمالي لم تكن هي بالضرورة شيئا يدور في خلد من ساعدوا علي إنشائها وتحمسوا لنموها.
ثالثا: ــ نحن لا ننكر أن بعض عواصم العالم تعاني التكدس السكاني والامتداد العمراني, بحيث نستطيع القول إن دولا عديدة أقدمت علي تجربة إنشاء عاصمة جديدة بكلفة عالية وفي ظل ظروف معينة, ولكن الأمر بالنسبة لقاهرة المعز يختلف, وهنا نتساءل لماذا أحيطت بالعشوائيات تلك العاصمة الرائعة التي لانزال نراها في سينما الأربعينيات والخمسينيات باهرة الجمال في أفلام الأبيض والأسود؟ وأين نحن من تلك الأيام الخوالي التي كانت عاصمتنا تضم ما لا يزيد عن خمسة ملايين نسمة؟.
رابعا: ــ إذا كانت قيمة الدول ومكانتها الدولية تتحدد أيضا بالانطباع السائد عن عواصمها فإننا ـ برغم أن جهودا جبارة قد بذلت في القاهرة علي امتداد العقود الأخيرة نري زحف العشوائيات قد تكفل بإهدار معظم تلك الجهود التي يعترف بها كل قادم إلي عاصمتنا العريقة, ولو أننا أنفقنا تلك الأموال الطائلة التي جري صرفها علي مرافق العاصمة العتيقة وطرقها, في إقامة عاصمة جديدة في الصحراء كما فعلت دول مثل البرازيل والهند وباكستان ونيجيريا, حيث بدأت عواصمها البديلة بالنشاط الإداري والدبلوماسي قبل أن تكتمل شخصيتها التجارية والاجتماعية, لو أننا فعلنا ذلك فربما كان لنا قول آخر الآن!
خامسا: ــ إن وسط القاهرة, خصوصا الأجزاء القديمة والتي تتمثل تحديدا في القاهرة الفاطمية, يعتبر متحفا مفتوحا تجب صيانته والحفاظ عليه بعيدا عن العبث والتلوث والزحام المخيف, فإذا وضعنا في الاعتبار أن مئات الألوف يزحفون كل صباح من حزام العشوائيات المحيط بالقاهرة لكي يضيفوا عبئا يوميا إلي العاصمة المصرية فإنه لا جدوي من كل الجهود الجبارة والأموال الباهظة والأفكار المبعثرة..
.. هذه ملاحظات تقدمنا بها حول العلاقة بين العشوائيات والعاصمة المصرية وأدركنا من خلالها الخطر الداهم الذي تمثله تلك العشوائيات في حياتنا والتي يمتد تأثيرها خارج العاصمة أيضا ليشمل الحزام المحيط بعواصم المحافظات والمدن الكبيرة في الدلتا والصعيد, والحقيقة أن العشوائية في الإسكان قضية بالغة الخطورة شديدة الحساسية لأسباب متعددة لعل أبرزها: ــ
(1) إن التجمعات العشوائية هي مرتع خصب للبيئة الحاضنة للعنف والانحراف إذ أن الفقر والتكدس يصنعان الظروف المناسبة والضغوط المطلوبة لأنواع من الجرائم تبدو غير مسبوقة في تاريخنا ويتزايد تأثيرها مع حالة الاحتقان السياسي فتصبح العشوائية مصدرا خطيرا لكل أنواع الجريمة وكل محاولات العنف وتهديد الاستقرار.
(2) إن الفقر عدو لدود للسلام الاجتماعي والأمن الوطني والعشوائيات هي بالدرجة الأولي مجتمعات فقيرة للغاية خرجت عن النظام العام والقانون بضغوط الفقر والحاجة, وبالتالي لا يمكن إلا أن تكون مبعثا للقلق والتوتر والمخاوف السياسية والاجتماعية.
(3) إن العشوائيات لاتبدو معزولة عن المدن ولكنها تمثل حالة اختلاط دائم بها وتواصل مستمر معها وهو ما يعني أن تكون المقارنة قائمة. فالمسافة الطبقية واسعة, بينما المسافة الجغرافية ضيقة, لذلك فإن الخطر يبدو كامنا في أعماق سكان العشوائيات بما يحملونه من أفكار وما يعيشون به من قيم ويمتلئون به من مشاعر من الطبيعي ألا تخلو من المرارة الدائمة والحقد الطبقي.
(4) إن كل محاولات تنظيم العشوائيات لم تحقق النجاح المطلوب, ذلك أن العشوائية أمر واقع, فإما الاعتراف به وتوصيل الخدمات إليه وتقنينه أمام الحكومة وفي مواجهة القانون وإما نكون قد سمحنا لأنفسنا بالهروب من المشكلة والتعامل معها بتسطيح شديد.
(5) إن العشوائية ليست مجرد مبان بلا تخطيط ولكنها أيضا انتزاع لأجزاء كبيرة من الرقعة الزراعية المصرية خصوصا في الدلتا, وسوف نكتشف أن نسبة كبيرة من التجمعات العشوائية قد أقيمت فوق أراض زراعية وهو ما يبعث علي الأسي ويثير الضيق, ولعله من المناسب أن نتذكر أنه عندما أراد البلجيكي البارون امبان تشييد ضاحية مصر الجديدة أقامها علي أرض صحراوية ولم يفكر في العبث بالرقعة الزراعية الموروثة وهي بالمناسبة رقعة صغيرة وتتآكل يوما بعد يوم.
.. هذه هي المخاطر التي نستشعرها من العشوائيات, لذلك يبدو قلقنا مشروعا ونحن نفكر بصوت عال للبحث في الأساليب الحديثة لمعالجة وجود المجتمعات العشوائية سواء كان ذلك بامتصاصها في حيز المدن وإعادة تخطيطها وتغطيتها بالمرافق, بحيث تنصهر في النهاية ــ وبعد كثير من الجهود والتحسينات ــ لتصبح أحياء علي أطراف المدينة, أو بالسعي في اتجاه سياسة الاحلال والإبدال وهي لازمة في بعض العشوائيات المتدهورة, حيث يستعصي العلاج ويستلزم الأمر استبدالها بمناطق سكنية جديدة يجري تخطيطها والإعداد لها وفقا للقواعد المعمول بها في قطاعات التعمير والإسكان, أقول ذلك وأنا أدرك حجم الانفاق المطلوب علي مثل تلك المشروعات المتفائلة..
إنني أظن أن مسألة العشوائيات ليست فقط قضية المباني الخارجة عن القانون, ولكنها أيضا قضية الأفكار الخارجة عن المنطق والتي افتقرت إلي الخيال الواسع, والنظرة البعيدة, والرؤية الشاملة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/6/21/WRIT1.HTM