كلما ترددت كلمة الإصلاح تذكرت الإمام محمد عبده فهو رائد الإصلاح الديني والاجتماعي في تاريخنا الحديث, إليه تنتسب الرؤية الواضحة, وبه يرتبط الفهم العميق لعلاقة الإسلام بالآخر إنه الإمام المجتهد الذي جمع بين الثقافتين الإسلامية والأوروبية فأصبح نتاجا لحضارتي الشرق والغرب في آن واحد, إنه الإمام الذي تميز بالانفتاح وأدرك مبكرا أن الثقافات تتواصل وأن الحضارات تتكامل فكان مثالا رفيعا لرجل الدين الإسلامي الذي نفتقده الآن, لقد جمع الإمام محمد عبده بين رصانة التراث ومرونة الحداثة وأقام شبكة قوية من العلاقات الفكرية والأكاديمية مع أبرز شخصيات عصره فكانت مراسلاته مع الأديب الروسي الشهير تولستوي شاهدا علي تفتحه المبكر واستنارته الشاملة. ونحن إذ نحتفل هذا العام بمضي قرن كامل علي رحيل الإمام العظيم الذي شغل منصب الإفتاء ولم يكن يوما شيخا للجامع الأزهر ومع ذلك حمل علي كاهله مسئولية إصلاح الأزهر الشريف والنهوض به وربطه بحياة عصره,
وعندما عاش في باريس لبضع سنوات مصدرا مع الأفغاني العروة الوثقي لاستنهاض همم المسلمين وتنقية الإسلام من الشوائب التي علقت به مع إجراء مصالحة واعية بين أصحاب الديانات, أليس هو الذي قال(لقد وجدت في فرنسا إسلاما بغير مسلمين بينما تركت في بلادي مسلمين بغير إسلام), فلقد أدهشه صدق الآخر وأمانته مع نفسه ومع غيره حتي استكشف الإمام ببصيرته الجوانب المتميزة في حضارة الغرب ولم يقف منها موقف العداء بل تفاعل معها في ندية وذكاء لكي يكمل الحلقة المتينة التي بدأها الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي وحتي يكتمل العقد الفريد من رموز الإصلاح والتنوير التي انطلقت من مصر لتشع علي العالمين العربي والإسلامي., إن فلاح البحيرة ابن قريةمحلة نصر مركز شبراخيت قد ترك بصمة في تاريخنا الحديث ثقافيا ودينيا وسياسيا كما خاض المعارك الضارية دفاعا عن وجهة نظره وإيمانا بما اقتنع به وعاش من أجله وظل يطوف بقاع العالم الإسلامي مع رفيقهالأفغاني للدعوة إلي الإصلاح والحرية وإعمال العقل والاعتماد علي الدلائل العصرية لإثبات الألوهية وتقوية الإيمان ومقاومة الإلحاد والرد علي الدهريين.
كما أن الإمام قد شغف بالدراسات المقارنة للأديان السماوية وأبلي فيها بلاء حسنا وظل داعية للحوار والاتصال والتعايش المشترك, إنه محمد عبده الذي دعم العرابيين وناصر الحركة الوطنية المصرية وربط بين نهضة الأمة وحركة التنوير ولعله يكون من المناسب مع الذكري المئوية لرحيل الإمام المصلح أن نرصد الملاحظات التالية: ــ
أولا: ــ إن نموذج الإمام محمد عبده فريد من نوعه فهو نسيج وحده إذ أن ذلك الأزهري المستنير قد خرج علي السياق الجامد لكي يكون شعلة مضيئة تهدي معاصريه وتابعيه بدءا من الأفغاني مرورا بالكواكبي وشكيب ارسلان وصولا إلي صاحب المنار محمد رشيد رضا, لذلك كان طبيعيا أن يكون الاحتفاء بالإمام العبقري غير مقصور علي مصروحدها فله في الشام مكانة وفي الغرب منزلة لكن مصر كانت هي المستقر الأخير والمقام الدائم.
ثانيا: ــ إن ظهور الإمام محمد عبده في وقت كان الأزهر يواجه فيه محنة التخلف ونزعة العزلة هو المصدر الحقيقي للاعتزاز والفخر وتأكيد الهوية, فقد ظهر الرجل في فترة انحطاط ارتبطت بهزيمةعرابي ودخول البريطانيين وبداية الاحتلال, ولكنه ظل محتفظا بتوازنه قادرا علي صياغة خطاب ديني اجتماعي سياسي ترك بصمة علي تاريخ الحركة الفكرية في مصر الحديثة.
ثالثا: ـــ يجسد الإمام العلاقة المعروفة بين المفكر والسلطان فهو نموذج مستقل لايمكن تصنيفه في الزحام مع غيره لذلك تظل سيرته موضع اهتمام واحترام دائمين, وسوف يظل علامة مضيئة في الفكر السياسي والإصلاح الديني واليقظة الوطنية,
ولقد كانت علاقته بأسرة محمد علي وحكامها الذين عاصرهم تتصف بالاستقلالية والتمسك بالمبدأ في مواجهة كل خديوي عاصره أو احتك به.
رابعا: ــ إذا كانت بعض الشكوك قد احاطت بشخصية الأفغاني ودوافعه وحتي لو تماشينا مع رأي المفكر المصري الراحل د.لويس عوض من احتمال أن يكون الأفغاني إيراني الأصل مرتبطا بالمخابرات البريطانية إلا أن الامام المصري محمد عبده يملك صفحة ناصعة البياض تتسم بالشفافية بما في ذلك ما تردد عن علاقته بالحركة الماسونية وارتياده لمحافلها, وقد كانت تلك الحركة تضم صفوة العقول المتميزة في عصره.
خامسا: ــ إن الإمام المجتهد الذي حاول أن يصلح من شأن الأزهر وأن يقتحم المؤسسة الدينية بفكر مستنير ورؤية جديدة يبدو الآن ــ أكثر من أي وقت مضي ــ قدوة لما يجب أن يكون عليه رجل الدين ولعل ذلك يذكرنا بأهمية العودة إلي نظام الابتعاث بحيث يتمكن الداعية الإسلامي من الاحتكاك بثقافة أخري وينفتح علي معارف مختلفة ويحتك بعقليات متميزة فقد خرج الإمام من مصر وهو يحمل شهادة العالمية الأزهرية لكي يفتح حوارا موضوعيا عميقا مع مفكري الربع الأخيرمن القرن التاسع عشر حتي أصبحت كتاباته ومراسلاته سجلا للحياة الفكرية في تلك الفترة كما اعتمد علي الأدلة العقلية ولم يقف عند حدود الأدلة النقلية في ردوده علي دعاوي المستشرقين والمعنيين بدراسة الإسلام ومقارنة الأديان.
... هذه ملاحظات استوحيناها من الذكري المئوية لرحيل الإمام محمد عبده حيث كانت الحركة الوطنية المصرية في مرحلة مخاض مبكر فهي التي خرجت من الحركة العرابية لتتهيأ للثورة الشعبية عام1919. ولاشك أن عددا من رواد الوطنية المصرية ودعاة الاستقلال قد تأثروا بفكر الإمام وروحه بدءا من مصطفي كامل وصولا إلي سعد زغلول, ويهمني هنا أن أسجل علي تاريخ الإمام أنه كان نموذجا إصلاحيا نفتقده اليوم وندرك أهميته حيث يبدو الإصلاح حاجة ملحة وقضية حاكمة في هذا الظرف الإنساني العصيب., ولعل أهم ما يميز عقلية الإمام هو أنه قد اعتمد الاجتهاد سبيلا للمعرفة وفتح بابه علي مصراعيه إعلاء لكلمة العقل وتقديسا لمفهوم الحرية, وإذا كان منطق رواد الإصلاح الديني والثقافي من بعده قد دفعهم لأن يسلكوا طريقا صداميا مع الأزهر مثلما فعلطه حسين إلا أن دعوة الإمام وأسلوبه يتميزان بالحكمة والهدوء والقدرة علي الاقناع والاحتواء مع درجة عالية من الانفتاح دون تفريط في ثوابت الدين وأركان الإسلام, لقد احترم الرجل الشريعة لأنها تنزيل إلهي ولكنه ناقش الفقه باعتباره صناعة بشرية نتفق معها أو نختلف.,
وإذا كان المؤرخ المصري الشهيرعبدالرحمن الجبرتي قد أدهشته سلوكيات الفرنسيين أثناء الحملة علي مصر فإن رفاعة الطهطاوي عندما كتب عن إقامته في فرنسا كان مدفوعا بالإعجاب الخفي والانبهار الصامت بالحضارة الغربية المسيحية وهو ما أظهرته أيضا كتابات الإماممحمد عبده وتعليقاته سواء في كتبه أو في صحفه أو فيما تحدث به في المناسبات المختلفة. وإني انتهز هذه المناسبة لأطلب من الأزهر الشريف أن يجعل من مئوية الإمام الراحل نقطة انطلاق يخرج بها من عزلته ويفتح أمام دعاته وطلابه آفاقا واسعة من المعارف العصرية والرؤي الرحبة والمفاهيم الصحيحة, ولتكن ذكري الإمام بداية صحوة حقيقية وحركة إصلاح شاملة في المجتمعات الإسلامية نتخلص بها من فكر الزندقة وغبار القرون وسنوات الهوان, وهذه نقطة تقودنا أيضا إلي تأكيد أن شعار الإصلاح شعار مصري رفعناه في القرن التاسع عشر ولسنا بحاجة إلي من يعطينا دروسا فيه مع القرن الحادي والعشرين, ولنتفق جميعا علي أن سيرة الإمام تجلب معها تلقائيا مفهوم سيطرة العقل علي حياة الإنسان مع تأكيد أهمية الحرية وقيمتها المتزايدة.
.. تحية للإمام بتراثه الخالد وفكره الصامد ونظرته الثاقبة وآرائه الموضوعية, إنه بحق إمام المصلحين وقدوة رجال الدين والشعلة التي انطفأت منذ مائة عام بعد أن ايقظت الضمائر وحركت الوجدان وأعلت من قيمة العقل ورسخت معني الحرية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/6/7/WRIT1.HTM