التقريران اللذان أقصدهما أحدهما محلي والآخر دولي ولكنهما يصبان في خانة واحدة تتصل بتحديث الحياة والتخلص من أمراض النظم ومتاعب الشعوب, وأعني بهذين التقريرين, التقرير السنوي الأول للمجلس القومي لحقوق الإنسان في جمهورية مصر العربية والتقرير الرابع للتنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وقد صدرا في توقيت واحد تقريبا
وسوف أتناول كل منهما بشيء من التحليل لكي نكتشف في النهاية أنهما يبحثان في ماهو أفضل للعرب والمصريين معا ولو بدأنا بتقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان فإنني أعتبره مفاجأة سارة أقول ذلك لا لأنني عضو في ذلك المجلس ولكن لأسباب موضوعية بحتة فقد تمكن التقرير من بسط أحوال حقوق الإنسان في مصر في شجاعة وجرأة تحسب للنظام ذاته خصوصا وأن المجلس كيان قومي يتبع الدولة المصرية, فقد احتوي التقرير مسحا شاملا للتجاوزات التي حدثت عام2004 في حق الإنسان المصري واتصل معظمها بمسائل الاعتقال والمعاملة في أقسام الشرطة وأوضاع السجون
وفد تجاوز هذا التقرير كل التوقعات ولم يكن مجرد وثيقة مستأنسة تضاف إلي وثائق أخري في هذا السياق بل امتلك واضعوه قدرا كبيرا من الحياد الأكاديمي والدقة العلمية حتي أصبح مفخرة لذلك المجلس الوليد في عامه الأول وفرض علي الآخرين احترامه بل والثناء عليه حتي إن المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية قد أشاد به ـ وإن كنا لاننتظر شهادة من أحد ولكن تبقي الآثار الدولية مدعاة اعتزاز لاننكره ـ والعجيب في الأمر أن كثيرا من الأقلام المصرية قد تناولته بالنقد ولم تر فيه الجانب الإيجابي بل ركزت فقط علي افتقاد بعض العناصر وغياب جزء خاص عن حقوق الإنسان الثقافية وكأنما غاب عنهم أن أول الغيث قطرة وأن ما لايدرك كله لايترك جله كما أن بداية بوادر الشفاء للمريض هي أن يتحدث صراحة عن أعراض دائه وأن يعي جيدا طبيعة مرضه
والتقرير الأول للمجلس القومي لحقوق الإنسان تقرير كاشف للحقائق لايمكن أن يزايد عليه أحد أو يقلل من قيمته آخر, فتقاليد الشرطة في معظم دول العالم متشابهة وهي تقوم علي مبدأ مغلوط مؤاده أن الغاية النبيلة تبرر الوسيلة الكريهة لذلك كان من أدواتها دائما عنف التحقيقات وقسوة التعامل مع المواطنين أحيانا والضغط من أجل الحصول علي الاعترافات غالبا وهي ظواهر بدأت تزول في كثير من دول العالم ومصر واحدة منها
فما أكثر ضباط الشرطة الذين تجري محاكمتهم لتجاوزات قاموا بها أو جرائم تعذيب اقترفوها, فسيادة القانون هي صمام الأمان في النهاية وهي التي تحمي من التجاوزات وتضع حدا للمخالفات وتشيع روح الأمن والطمأنينة بين الناس, أما التقرير الثاني الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة فقد كانت ولادته متعثرة هذا العام إلي حد كبير ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اعترضت عليه قبل أن ينشر رسميا لأنه تعرض لغزوها للعراق وحوي إشارات انتقادية لسياساتها في الشرق الأوسط لذلك هددت واشنطن بإيقاف دعمها للبرنامج الذي تأتي منه ميزانية إصدار التقرير ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن دولا عربية شعرت بحساسية خاصة من إشارة التقرير إلي تهميش بعض القوي السياسية رغم وجودها الفعلي وظل الجدل محتدما لعدة شهور بين واضعي التقرير ـ وهم بالمناسبة من أبناء المنطقة, وليسوا غرباء عليها فهم يعرفون ظروف المجتمعات وواقع الحال فيها ـ وبين بعض ممثلي الحكومات العربية, بالإضافة إلي نخبة من أبرز المثقفين العرب
وكان الهدف في النهاية هو الوصول إلي حل توفيقي يصدر به التقرير دون الإخلال بمبناه أو الانتقاص من محتواه, وصدر التقرير أخيرا واحتفت به الهيئات العربية والدولية العاملة في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان وغيرهما من مؤسسات المجتمع المدني الناشطة في الميدانين السياسي والإنساني, وهنا نقف لنتأمل العلاقة بين التقريرين والغايات المشتركة بينهما, والأهداف التي تجمعهما رغم اختلاف مصادرهما
ونوجز ذلك في الملاحظات التالية:ـ
أولا:ـ إن الحديث عن الإصلاح يجب ألان يكون مصدر حساسية للحكام أو الشعوب, فالإصلاح عملية تدريجية متصلة لا تتوقف أبدا والدعوة إليها والعمل من أجلها هي مطلب لم يتوقف عبر العصور فاتجاه الإنسان إلي الأفضل ورغبته في التخلص من مشاكله وعلاج أمراضه هي مسألة مستقرة في الوجدان الإنساني, لذلك فإن كل الدعوات المخلصة للإصلاح إنما تنطلق من واقع الحال وتعبر عن الظروف المحيطة ولايمكن أن تكون سلعة أجنبية يجري استيرادها بصورة موسمية فأهل مكة أدري بشعابها ولايعرف طبيعة المجتمع إلا من يعيشون فيه ويرتبطون به ويعملون من أجل مستقبله.
ثانيا:ـ إن التقريرين يشيران إلي قضية الحريات العامة ورفض الأوضاع الاستثنائية وتجريم التجاوزات ضد الإنسان العربي والتأكيد علي أهمية مؤسسات المجتمع المدني في مراقبة مايحدث ومتابعة مايدور ولئن تصور البعض أن قضايا الحرية وحقوق الإنسان وفتح القنوات الشرعية أمام القوي السياسية المختلفة هي أمور هامشية أو ترفية في مستقبل الشعوب فإنهم لاشك واهمون ذلك أنه لاتنمية حقيقية بدون ديمقراطية سليمة ولاتقدم لشعب محروم من الحرية, كما أن التفريط في حقوق الإنسان هو بداية الخلل في العلاقة بين الأنظمة والشعوب, لهذا كله فإننا نعتقد أن التقريرين يمسان بشكل مباشر قضايا مستقبلية, وهو ما أغرانا بالتعرض لهما في وقت واحد.
ثالثا:ـ إن المخاوف الشائعة من مثل هذه التقارير هي مخاوف لا مبرر لها كما أن الإقلال من قيمتها أيضا لايعبر عن نظرة موضوعية أو تقييم عادل إذ أن أمما كثيرة تجاوزت محنتها وانطلقت نحو غاياتها معتمدة علي مثل هذه التقارير وما تحتويه من توصيف أمين وتحليل دقيق واستنتاجات سليمة, كما أن عنصر الديمومة في مواصلة دراسة هذه التقارير وفهم نتائجها هو أمر له أهميته لأنه لايجعل منها ظاهرة موسمية عابرة ولكن يري فيها وصفة سياسية واجتماعية للخلاص من مشكلات قائمة وأخري قادمة.
رابعا:ـ إن دورية التقارير وانتظامها هي عملية متابعة كاشفة تبرز عناصر التقدم, وتشير إلي مواطن التخلف بل, وتثبت جدوي تلك التقارير, وتظل مصدرا أساسيا لما يمكن أن يحدث في الحاضر والمستقبل, كذلك فإنها مقياس لأحوال الأمة عموما, وصمام أمن في مواجهة الأحداث الطارئة والتجاوزات العابرة والأخطاء الشائعة, وسوف نظل علي حماسنا لإعطاء هذه التقارير درجة من الحصانة الفكرية تحمي من كتبوها وتضمن استمرارها.
خامسا:ـ إن فكر العولمة وسقوط الحواجز والحدود وميلاد القانون الدولي الإنساني المتضمن حق التدخل في ظروف كثيرة ولأسباب متعددة منها حماية الديمقراطية وصيانة الحريات والدفاع عن الأقليات وضمان حقوق الإنسان وغيرها من المبررات العصرية, إن هذا الفكر الذي وفد علي البشرية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي قد أصبح يستوجب قبول النقد بل والترحيب به والتجاوب مع الملاحظات التي تبديها هيئات دولية أو إقليمية أو محلية مع العمل علي تصحيح الأخطاء وتصويب المواقف وتعديل المسار, فالعالم كله يتغير والدنيا من حولنا تتبدل ونحن عاكفون علي ماضينا متورطون في حاضرنا متجاهلون لمستقبلنا...
هذه ملاحظات قصدنا بها الربط بين غايات التقريرين باعتبارهما يتجهان نحو هدف واحد هو الإصلاح السياسي والأمني بالدرجة الأولي, ولعل التقرير الأول للمجلس القومي لحقوق الإنسان هو المفاجأة لأن التقرير الرابع للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ليس جديدا فقد سبقته تقارير في السنوات الماضية أثارت جدلا وحركت المياه الراكدة, وفتحت حوارا واسعا علي المستويين الإقليمي والدولي, ونحن نظن مخلصين أن الإلحاح علي قضية الحرية بمعناها الواسع ومفهومها في الفكر والفلسفة هو المدخل الصحيح لموجات الإصلاح المتعاقبة التي تمضي دائما مع طبيعة الأشياء وسنة الكون وفلسفة التطور.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/4/26/WRIT1.HTM