المعونة الأجنبية مسألة شائكة ذات حساسية خاصة, لأنها يمكن أن تتحول إلي سلاح ذي حدين, فالقوي الكبري والدول ذات النفوذ تستخدم ورقة المعونة لممارسة ضغط معين علي دول أخري, كما أن موضوع المعونة يرتبط بقضية الدور, سواء بالنسبة للدولة المانحة أو الدولة التي تتلقي الدعم, فالولايات المتحدة الأمريكية ـ علي سبيل المثال ـ هي القوة العظمي المنفردة في عصرنا وهي تستخدم المعونات الخارجية استخداما يخدم مصالحها ويحقق أهدافها ويحمي حلفاءها
ولو أنك سألت مسئولا صينيا الآن عن احتمال أن تصبح الصين قوة عظمي تقود العالم بعد عدة عقود بحكم معدل النمو العالي الذي تحققه والحجم السكاني الذي تملكه, والدور المنتظر الذي يمكن أن تضطلع به, لو أنك سألت ذلك المسئول مثل هذا السؤال فإن إجابته علي الفور ستكون هي أن الصين, لاتتطلع لأن تكون قوة عظمي تهيمن علي السياسة الدولية, فمثل هذا التفكير تفكير إمبريالي لا تقبله أيديولوجية الصين وكل ماتتطلع إليه السلطة في بكين هو رفع مستوي معيشة مئات الملايين من شعبها وتأمين احتياجاتهم الأساسية وتحقيق مجتمع الوفرة والرفاهية لهم
ولو بعد حين, أقول ذلك لكي أبرهن علي أن قضية الدور الدولي الكبير وتشكيل عقلية الدولة العظمي مسألة تحتاج إلي رغبة وإرادة وليست مجرد توافر الأركان المادية لمثل ذلك الكيان, فقيادة العالم تحتاج إلي نفقات باهظة لأن فيها تحالفات وحروبا وفيها معونات وعقوبات وفيها مؤتمرات ومسئوليات لذلك فإن مسألة الدور الدولي هي مسألة إرادية بالدرجة الأولي ولا تأتي عشوائية, لأنها تحتاج إلي التزام وتصميم لايتحققان بغير وعي كامل ورغبة كامنة, فالولايات المتحدة الأمريكية خرجت من سنوات العزلة التي حكمها مبدأ مونرو في القرن التاسع عشر وتفتحت شهيتها علي العالم القديم مع الحرب العالمية الأولي
عندما ظهرت مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون التي ارتبطت بمؤتمر فرساي للسلام, ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتلقي بالولايات المتحدة الأمريكية في معترك السياسة الخارجية وأتون الحرب في أوروبا والشرق الأقصي وغيرهما من بقاع العالم القديم, ولقد استخدمت واشنطن دائما سلاح المعونات الاقتصادية التي كان أبرز نماذجها مشروع مارشال لإنعاش أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية, عندما تكشفت حقيقة جديدة مؤداها أن الظروف الاقتصادية تقف خلف الحروب, وتعتبر واحدا من أهم أسبابها, وعندما برز الصراع العربي ـ الاسرائيلي وقامت الدولة العبرية في الشرق الأوسط بعد عقود قليلة من الاكتشافات البترولية الهائلة فيه, ظهر مبدأ أيزنهاور وشاعت نظرية الفراغ في الشرق الأوسط تعبيرا عن وراثة الولايات المتحدة الأمريكية للدورين البريطاني والفرنسي في الشرق الأوسط وشمال افريقيا, وعندما وقع المصريون والإسرائيليون معاهدة السلام في26 مارس1979 قررت الولايات المتحدة الأمريكية تقديم معونة سنوية للدولتين, صيانة للسلام وحفاظا عليه, ومضت مع التقليد الأمريكي الذي يدعم الحلفاء في قارات الدنيا بغير استثناء
وهنا تكون لنا الملاحظات التالية:
أولا: أن المعونة الأجنبية طريق ذو اتجاهين لاتعطيها دولة لأخري حبا فيها أو تصدقا عليها, فهي ليست عملا خيريا ولكنها مسألة سياسية ترتبط بأهداف واستراتيجيات لايمكن تجاوزها, فكل شيء في عالم السياسة له مقابل, وكل إجراء له ثمن, وكل مبادرة لها تكلفة, ولايتصور أحد أبدا أن المعونات الأجنبية عمل إنساني بحت, ولكنها تأتي تحقيقا لمصلحة, أو منعا لضرر, وليست أمرا مطلقا بغير ضوابط أو روابط.
ثانيا: إذا كنا نتحدث عن المعونة الأمريكية تحديدا, فإن مصالح واشنطن في الشرق الأوسط ترتبط باستقراره, ومصر هي قاعدته المحورية وركيزته الأساسية, بدونها لاتنشب حرب شاملة, كما لايتحقق سلام كامل, والولايات المتحدة الأمريكية تدرك أكثر من غيرها أن مصر بوابة المنطقة دخل منها السوفييت إلي الشرق الأوسط في عصر عبدالناصر, وخرجوا منه في عهد السادات, كما أن التحالف الصامت بين القاهرة, وواشنطن قد أصبح واحدا من المعطيات الإقليمية الرئيسية, ولانستطيع أن نقول إن معونة واشنطن لمصر هي معونة لاتقابلها أدوار ومواقف علي الجانب الآخر, إذ إن واشنطن تعرف لمن تعطي ومتي, مثلما فعلت في الشرق الأقصي والشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية, فضلا عما فعلته في إطار الأطلنطي, خصوصا خلال الأزمات الطارئة والظروف الصعبة.
ثالثا: إن مصر هي التي صانت السلام ـ وإن لم يكن شاملا ـ بين مصر وإسرائيل, وهي التي تعاملت بحكمة بالغة في مواقف معقدة, وأمام تطورات شديدة الحساسية, ولو أن مصر تصرفت من منطلق الغضب أحيانا, أو سلكت طريق الرعونة السياسية أحيانا أخري, لانقلبت موازين المنطقة وتغيرت بشكل غير مسبوق, ولكن توازن سياساتها وطول صبرها هما اللذان مكنا للمنطقة ألا تكون في وضع أشد سوءا وأكثر تدهورا.
رابعا: إن تصنيف المعونة وبنودها المختلفة يؤكد أنها لاتذهب بكاملها إلي الدول الممنوحة, بل إن المصروفات الإدارية ودراسات الجدوي واشتراط الشراء من الأسواق المانحة تمثل في مجملها عوامل تؤدي إلي الإقلال من الفائدة الحقيقية للمعونة, وتجعل الصافي منها أقل بكثير من أرقامها الأصلية المعلنة, وهذه نقطة حرية بالدراسة, جديرة بالبحث, حيث يبدو الخيار محدودا عند مناقشة هذه الموضوعات من جانب الدول التي تتلقي المعونات.
خامسا:ـ تلوح الدولة المانحة بين حين وآخر بسلاح المعونة في وجه من يتلقونها, علي نحو قد يجرح الكبرياء القومية ويصيب الكرامة الوطنية والشعور العام, سواء بالتذكير المستمر بها أو الحديث عن تخفيضها أحيانا, فضلا عن التحكم في توجيهها بصورة قد لاتخلو من روح الاستفزاز ونغمة الهيمنة.
.. هذه ملاحظات أردت أن أطرح من خلالها مسألة الحديث عن قضية توجيه المعونة الأمريكية لبعض الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية, وربطها بخطط الإصلاح وبرامج الترسيخ الديمقراطي والنهوض الوطني, وهنا نكون أمام الحق الذي يراد به باطل, لأن شبهة التدخل الأجنبي تبدو واضحة, كما أن مثل هذا التصرف قد يستعدي فئات علي غيرها ويؤدي إلي انقسام اجتماعي وسياسي لايخفيان علي أحد, وأنا أطالب هنا بطرح رؤية جديدة لمسألة المعونة الأجنبية تقوم علي حسابات المكسب والخسارة بوضع الأهداف السياسية المحققة للدولة المانحة في معادلة متكافئة أمام الأرقام المالية للمبالغ الممنوحة منها, إذ أن العائد السياسي قد يفوق كثيرا المدفوع المادي بصورة لاتسمح باستخدام الأخير سلاحا علي رقاب من يتلقون المعونة ويدفعون ثمنها من سياستهم دائما, بل ومن كرامتهم أحيانا, إنني لا أعترض علي دعم المجتمع المدني وهيئاته ومؤسساته وجمعياته, ولكن يجب أن يتم ذلك من خلال تنسيق شامل ونظرة عادلة لا تحرج الحكومات, ولا تضع قيدا علي الشعوب, ولاتصادر الحركة الطبيعية للمجتمع, فالغني والفقر ظاهرتان فرديتان ولكن عندما يرتبطان بالأمم والشعوب فالمسألة مختلفة
لأن السيادة الوطنية تلعب دورها في المساواة بين أهداف المانح وكرامة الممنوح, ومازلت أذكر أنني كنت أناقش مرة أطروحة دكتوراه لمسئول مصري سابق وكان يدور موضوعها حول مديونية دول العالم الثالث, وجاء في الرسالة أن رئيس إحدي الدول لم يذهب إلي واشنطن في زيارته السنوية بسبب عبء مديونية بلاده الذي يشعر به تجاه الولايات المتحدة الأمريكية, وذلك قول مردود عليه ـ كما فعلنا يومها ـ فالدول لاتتعامل بمنطق الأفراد, وليس هناك مبرر للخجل السياسي من جانب المدين تجاه الدائن, فما بالك إذا كان الأمر متعلقا بالمعونة ذات الاتجاهين؟ لهذا فإنني أختتم هذه السطور مؤكدا أن للمعونة الأجنبية إطارها السياسي ودافعها الاستراتيجي ويجب ألا تكون قيدا علي حركة الأوطان أو سياسات الدول, كما يجب أبدا ألا يكون فيها مساس بكرامة الشعوب وكبرياء الأمم.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/4/12/WRIT1.HTM