من المسئول عن صورة مصر في الخارج؟ إنه نحن- جميعا- المسئولون عن تلك الصورة وتشكيلها وتقديمها علي النحو اللائق ببلدنا, بكل ما يحمله ذلك البلد من تراث حضاري, وما يحتويه من إرث إنساني, وما يمثله من ثقل سياسي, وما يعبر عنه من أهمية بشرية واستراتيجية, أقول ذلك لأنني أري أننا نظلم هذه الصورة أحيانا عندما ندخل في بعض القضايا الفرعية
ونمضي وراء الضوابط الأمنية دون اعتبار بالنتائج السياسية, ثم ندفع ثمنا لا مبرر له ونخضع لعملية ابتزاز دولي تمارس فيها الصحافة الأجنبية وأجهزة الإعلام الخارجية أدوارا موجهة, بل وتنبري بعض الأقلام المشبوهة بالإضافة إلي عدد من البرلمانيين الغربيين المحترفين ليصبوا الزيت علي النار في محاولة متعمدة لتشويه صورة مصر والنيل من مكانتها والابتعاد عن كل ما هو إيجابي فيها, والتركيز علي كل ماهو سلبي بها
لذلك فإنني ألح مرة أخري علي أهمية الإخراج السياسي للقضايا العامة مهما كانت صغيرة, فهذا الوطن مستهدف ومصر دولة مركزية محورية في المنطقة ينظر الكل إليها, وينقل البعض منها ويتصيد البعض الآخر الأخطاء لها
لذلك فإنني أود أن أتقدم في هذا السياق بالملاحظات التالية:-
أولا: إن موجة الإصلاح التي كثر الحديث عنها حتي جرت إساءة استخدام المصطلح ذاته, بعد أن أصبح تداوله أمرا روتينيا وتعبيرا مكررا, موجة الإصلاح تلك قد جري اتخاذها كمبرر للتدخل في شئون الآخرين وتكأة لتلويث سمعة الدول, بل والتشهير بها واستغلال الأحداث الصغيرة لتصبح أمورا كبيرة يدفع الوطن فاتورة ثمنها وتتهافت وسائل الإعلام علي نشر أخبارها.
ثانيا: إن عملية الالتقاط التحكمي لبعض الأحداث والتركيز عليها في زخم إعلامي ملحوظ هي أمور مقلقة, وتؤكد إننا بحاجة إلي مصفاة سياسية تضع الأمور في نصابها وتحدد لكل شيء حجمه الطبيعي ـ وعلي سبيل المثال فإن رفع الحصانة عن الرئيس السابق للجنة الاقتصادية بمجلس الشعب نتيجة مخالفات بنكية أدت إلي محاكمته وحبسه ـ لم تثر تلك الواقعة أي رد فعل دولي بينما, جاء حادث آخر يبدو مماثلا في طابعه الجنائي ولكنه مختلف في ملابساته السياسية, فإذا الدنيا قد قامت ولم تقعد تعبيرا عن الجانب السياسي في القضية وإنكارا للجانب الجنائي فيها, وهو أمر يشير مرة أخري إلي ظاهرة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين.
ثالثا: إن مصر قد دفعت من سمعتها- بغير مبرر- ثمنا فادحا لقصة مدير مركز ابن خلدون ودفعتها مرة ثانية مع قصة رئيس حزب الغد وأنا لا أتحامل عليهما بالمناسبة, ولكنني أري أنه قد جري تسييس الواقعتين وتضخيم الأمرين وتحويل الحادثتين إلي مناسبة لتجريح صورة مصر والنيل من الأوضاع الداخلية فيها.
رابعا:إن صناعة البطولة أصبحت أمرا متاحا في عصرنا إذ أن قوة الدفع الإعلامي وعمليات صناعة الصورة بالمقياس المطلوب في الوقت المناسب قد أصبحت فنا برع فيه الكثيرون, ولايمكن أن نتصور أن تكون صناعة البطل الوهمي علي حساب الوطن المقدس, لذلك فإن الحذر مطلوب والرؤية ضرورية ولايمكن أخذ المسائل بشكل عابر قد يؤدي إلي تسطيح الأمور.
خامسا:إن صورة الوطن ليست مسئولية وزارة الداخلية أو وزارة العدل أو هما معا, ولكنها مسئولية تضامنية تتحملها الحكومة المسيسة القادرة علي فهم الملابسات الدولية وإدراك المتغيرات العالمية, لا أن تبقي المسألة برمتها مجرد أحداث عابرة دون إعمال منطق المواءمة السياسية والقدرة علي الإخراج الذكي للقضايا الشائكة, إنني أقول ذلك وعيني علي أحداث معينة وملابسات محددة لاتخفي علي كل متابع لما يكتب عنا في الخارج, وما يثار حولنا في الداخل.
... هذه ملاحظات قصدت منها أن أبعث برسالة واضحة مؤداها أن بعض الوقائع التي تبدو بسيطة تظلم الوطن وتسيء إلي صورته بغير مبرر يتناسب مع ماحدث, فصورة مصر التي تحسنت كثيرا بعد قرار الرئيس مبارك بإعمال المادة189 من الدستور المصري بطلب تعديل المادة76 منه بحيث يكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب الحر المباشر, ووضع نهاية للاستفتاءات التي عرفتها مصر في النصف الثاني من القرن الماضي, بحيث يصبح مجيء الرئيس المصري بالانتخابات وليس بالاستفتاءات, ناهيك عن الثورات والانقلابات
أقول إنه عندما ارتفع الرئيس بصورة مصر عالية فإنه جرت محاولات للنيل من ذلك العمل السياسي النبيل والتوجه الإصلاحي الواضح باستخدام قضايا فرعية أخري في الإعلام الغربي, وكأن هناك من يريد أن يحرم من مصر احتفالها بعرس الديمقراطية وفرحتها بأول إصلاح دستوري في البلاد, ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلي مايمكن أن يكون محاولة خبيثة للمقايضة بين القرار الصائب والحدث الصغير, والغريب في الأمر أن هناك أقلاما يجري توظيفها لخدمة هذا الهدف واستغلالها لتحقيق ذلك المأرب
لذلك فإنني ألفت النظر إلي المعايير التالية: ــ
(1) إن العقل السياسي هو عقل الأمة والمصفاة التي تمر من خلالها المياه المندفعة في نهر الحياة اليومية بحيث لايجوز أن تتسرب الوقائع الصغيرة لتتحول إلي بالونات كبيرة في سماء الوطن, خصوصا أن مصر وطن مستهدف لذاته, مقصود لدوره, متهم دائما بغير دليل.
(2) إن الحياة السياسية العامة في بلادنا لاتقوم بالضرورة علي أسس صحية, ولاتمثل دائما مناخا سويا لأسباب تاريخية ـ لا نخوض فيها ولا نتعرض لها ـ ولكننا نكتفي بالإشارة إلي طبيعة الأحزاب السياسية وضعف تأثيرها في الشارع وارتفاع صوتها في الصحف, وهو أمر يدعو إلي التأمل ويستوجب الدراسة.
(3) إن العجلة في اتخاذ القرارات أحيانا والتسرع في فهم المسائل بطريقة خاصة أحيانا أخري هما من الأمور التي توجد مناخ التوتر السياسي والقلق الاجتماعي بشكل يستدعي حاليا القيام بعملية مراجعة أمينة لكل هذه الأمور.
(4) لقد آن الأوان لكي تكون هناك عملية تنسيق مسبق بين السلطات الثلاث, بحيث لاتتحمل إحداها وزر الأخري, بل تكون الموازنة فيما بينها قائمة علي أسس من الاحترام المتبادل والتعاون المشترك, فلو أخذنا مثالا لما جري في إحدي الحالات الأخيرة لوجدنا أن غياب التنسيق المسبق كان له أثر في طبيعة الإخراج السياسي للواقعة علي نحو جعل تصويرها ظالما لمصر وقاسيا عليها.
(5) إن الشفافية هي طريق المصداقية وأسلوب العصر في توصيل الحقائق ودمغ الأكاذيب, لذلك فإن غيبة المعلومة الدقيقة أو تأخر وصولها هي أمور تؤدي إلي نتائج سلبية وتعكس صورة غير مريحة لوطن يشقي من أجل أن يعيش!
..أعود فأقول مرة أخري ـ ولن أمل التكرار ـ إن الرؤية السياسية الشاملة ــ بخلاف النظرة الجزئية المحدودة ــ هي السبيل الوحيد لتقديم الوطن بصورته الحقيقية, خصوصا أن الأوطان تعيش علي تراكم الأحداث فهي ليست كالشركات تخسر يوما وتربح يوما آخر, إذ أن الأوطان أرباحها متراكمة وخسائرها أيضا متراكمة, وهو ما يجعل الحرص عليها والحفاظ علي وحدتها وسلامتها أمرا لايمكن إغفاله أو تجاوزه, والأوطان الشامخة لاتسمح للأحداث العارضة بأن تنال منها أو تؤثر فيها.. إن خلاصة ما أريد أن أذهب إليه هو أن الإخراج السياسي الصحيح للمسائل المختلفة أمر لازم وضروري إذ أنه لم يعد مقبولا أن تعكر قطرة واحدة البحر كله, أو تمس زوبعة عابرة سلامة وطن والمساس بصورته, وأعود وأطرح السؤال من جديد من المسئول عن صورة مصر؟ وأقول إنه كل فرد فينا, إنه نحن جميعا!...
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/3/29/WRIT1.HTM