الدكتور بطرس بطرس غالي شخصية مصرية فريدة تحتاج إلي دراسة واعية وفهم عميق, ولقد ربطتني به ظروف تمتد لأكثر من أربعين عاما عرفته خلالها عن قرب أستاذا جامعيا لامعا ووزيرا مرموقا ومضت علاقتي به وثيقة قوية وهو يشغل الوظيفة الدولية الأولي كسكرتير عام للأمم المتحدة, وفي كل المراحل وجدته في حوار مستمر مع الذات, وتفكير متصل من أجل وطنه, لم نعرفه يوما بدينه أو عقيدته ولكن عرفناه دائما بعلمه المنظم وطريقة تفكيره الحصيفة وهويته الوطنية البارزة, وأظن أننا ـ نحن تلاميذه ـ قد التقطنا درجة عالية من جدلية التفكير وتقاليد الحوار من ذلك الرجل الشامخ بدءا من أول محاضرة حضرتها له في قاعة البحث عندما أوصاني أن أكتب دراسة حول فكرة التنظيم الدولي الإسلامي عند عبدالرحمن الكواكبي مستمدا من كتابه أم القري وصولا إلي استفزازات المحاور المشاغب أحمد منصور وهو يستدرج أستاذنا في برنامج شاهد علي العصر في قناة الجزيرة, وبرغم أن المسافة بين الحدثين تصل إلي ثلاث وأربعين سنة فإن بطرس غالي ظل هو نفسه بطرس غالي الديمقراطي بطبيعته, المجادل بفطرته, المحترم بشخصيته,
والذي يهمني في هذه السطور هو أن أتحدث مع القاريء حول بعض وصاياه المرتبطة بالسياسة الخارجية المصرية, فقد هاتفته منذ أيام مستفسرا عن صحته متمنيا لأستاذي عافية دائمة وعطاء مستمرا ولكنه ـ كعادته ـ يحيل دائما أحاديث المجاملة إلي موضوعات مفيدة يبدي فيها رأيا أو يسدي نصيحة, ولقد لفت نظري في حديثه لي أخيرا الوصايا التالية: ـ
أولا: ـ كان الدكتور بطرس عائدا لتوه من زيارة أخيرة للهند وهي زيارة تقليدية شبه سنوية حرص عليها للعملاقين الآسيويين الهند و الصين وكان مما قاله لي أن الهند تتطلع بالحاح لزيارة من الرئيس مبارك لأنها لم تسعد باستقباله منذ عام1983 وأضاف أنهم ينتظرونه بواحدة من أرفع جوائزهم علي الإطلاق تقديرا لدوره منذ سنوات علي الساحتين الدولية والإقليمية, ولقد صدقت مقولة الدكتور بطرس غالي عندما جاء إلي مصر بعد ذلك بأيام قليلة مبعوث هندي خاص استقبله الرئيس مبارك وهو السفير الهندي المعروف جاراكان الذي التقيته علي عشاء في منزل السفير الهندي بالقاهرة حيث كان التعليق يدور حول مقال لي في صحيفة الأهرام ويكلي حول العلاقات العربية ـ الهندية, ولقد ذكر لي المبعوث الهندي أن الرئيس مبارك قد بادره عند استقباله بالقول إنه ينوي زيارة الهند قريبا بعدما حالت شواغل المنطقة المتتابعة من تحقيق تلك الزيارة في السنوات الماضية,
وقد تحدث الضيف الهندي حديثا طيبا عن مستقبل العلاقة بالجارة باكستان وكيف يمكن أن تدخل المنطقة مرحلة الاستقرار بعد طول توتر وهو حديث قريب من الانطباع الذي خرج به الدكتور بطرس غالي بعد لقائه برئيس وزراء الهند حيث بدت القضية الفلسطينية حاضرة في الضمير الهندي لا تتراجع ولا تموت برغم العلاقات الوثيقة التي ربطت الهند بإسرائيل في السنوات الأخيرة.
ثانيا: ـ تحدث الدكتور بطرس غالي عن التطلع المصري لشغل مقعد إفريقي دائم في مجلس الأمن وتناول الموضوع بحماسه المعهود, مؤكدا أن العلاقات الإفريقية الهندية وثيقة للغاية تجمعها أواصر عديدة ليس أقلها العضوية المشتركة بين الدول الإفريقية الأنجلوفونية والهند من خلال مجموعة دول الكومنولث, ولذلك فهو يري أن جزءا من التأثير المصري علي القارة الإفريقية يمكن أن يأخذ طريقة عبر نيودلهي فضلا عن الطرق المباشرة التي تربط مصر بشقيقاتها في القارة الإفريقية, والدكتور بطرس غالي له رؤية فاحصة في المسرح السياسي الإفريقي بالذات وعلي الساحة الممتدة من أعماق القارة إلي القاهرة فالفضاء الإفريقي ارتبط بالدكتور غالي أكاديميا وسياسيا ودبلوماسيا, فهو يؤمن بأن القارة الإفريقية هي مجال حيوي طبيعي لنا وشراكة إنسانية ممتدة عبر التاريخ, ولقد لعب هو شخصيا دورا كبيرا في تعظيم الدور المصري في قارته الأم,
وأشهد أنه قد حذرني من احتمال خسارة فادحة لمصر في موضوع مونديال2010, كما أنه تشكك أيضا في إمكانية حصول مصر علي قرار إفريقي بأن تكون القاهرة هي عاصمة برلمان الاتحاد بسبب تأخر الدبلوماسية المصرية حينذاك في التوقيع علي اتفاقية ذلك البرلمان, وأشهد أن حدس العالم الجليل كان صحيحا في المرتين.
ثالثا: ـ عندما امتد الحديث بنا مع الأصدقاء الهنود في دار السفير بالقاهرة في حضور نخبة من مثقفي مصر ومفكريها أثرت مع المبعوث الهندي ما يبدو أن الهند قد أصبحت طرفا فيه, وهو المحور الذي يربطها بجنوب إفريقيا والبرازيل بديلا عن المحور التاريخي الذي ربط نيودلهي بالقاهرة و بلجراد في تلك الأيام الخوالي التي ملأت فيها حركة عدم الانحياز بزعامة نهرو و عبدالناصر و تيتو فراغا دوليا في سنوات الحرب الباردة, ولقد كانت روح المبعوث الهندي وأفكاره قريبة من روح وأفكار تلك السنوات التي رحلت مع ستينيات القرن الماضي فهو يتساءل عما يمكن أن تفعله الهند لخدمة التسوية السلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي, وأسلوب دفع العلاقات المصرية ـ الهندية لتعود إلي زخمها القديم؟ عندئذ تذكرت الدكتور بطرس غالي الذي ظل يراهن دائما ـ أستاذا ووزيرا وموظفا دوليا رفيعا
ـ علي القوي الصاعدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية, بالإضافة إلي جذوره الفكرية الأوروبية التي جعلته في كثير من الأحيان غير محسوب علي الضفة الغربية من الأطلنطي وصنعت بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية حساسيات انتهت بإبعاده عن موقعه رغم أنه كان شخصية قوية تحاول أن تجعل لدور الأمين العام مساحة معقولة من الحركة مع سيل من المبادرات المتجددة علي الصعيدين السياسي والدبلوماسي وتحريك قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة علي امتداد خريطة العالم.
.. ذلك هو بطرس بطرس غالي المصري حتي النخاع, الوطني من الأعماق, المهموم بمصر في كل المناسبات, والذي يحمل وطنه علي كاهله في جميع المحافل والمؤتمرات, إنه بطرس غالي ابن الفجالة الذي كان عضوا في مجلس الشعب المصري, ونائبا لرئيس الوزراء وهو أيضا بطرس غالي الذي تعرض لحملات ظالمة وهجمات شرسة لأسباب لا تتصل به, ولكنه ظل دائما ذلك الإفريقي المصري الذكي الذي لا تغيب رؤيته أبدا, ومازلت أذكر أن محطة الإذاعة البريطانية عندما قدمته يوم انتخابه أمينا عاما للأمم المتحدة قالت إنه بطرس غالي.. إفريقي ولكنه غير أسود, عربي ولكنه غير مسلم, مصري ولكنه غير فقير! هكذا كانت الطعنات توجه إلي ذلك الأستاذ الشامخ وهو يبدو كالطود الأشم الذي لا تؤثر فيه الرياح العاتية ولا الأنواء الكاسحة, والدكتور بطرس غالي الذي يترأس الآن المجلس القومي لحقوق الإنسان, بالإضافة إلي رئاسته لمنظمات دولية أخري ذات طابع سياسي إنساني مثل منظمة( الجنوب) بعد أن كان أمينا عاما للفرانكفونية يتخذ من باريس مقرا ومن القاهرة مستقرا وقد اقترحت عليه أن يوجد في مصر كل عام في فترة الشتاء
ما بين عيد ميلاده وعيد ميلاد السيد المسيح أي أن يكون في مصر من الرابع عشر من نوفمير إلي السابع من يناير كل عام, وهو حاليا لا يفعل ذلك فقط ولكنه يزيد عليه من خلال مسئوليته في المجلس القومي لحقوق الإنسان بحيث تزايدت زياراته لمصر وتواترت لقاءاته بأبنائه وتلاميذه, إنه بطرس بطرس غالي سليل عائلة قبطية عريقة ونجم دولي مرموق نعتز به ونفاخر, ونستمع إلي وصاياه وننصت, ونؤمن بحكمته ونستفيد, وأعتز أنا شخصيا بأنني أشاركه يوم المولد برغم خلاف السنين.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/3/15/WRIT1.HTM