تؤرقني كثيرا قضية ذات بعد إنساني, تدور حول الرموز التاريخية لحضارتنا العربية خصوصا في مصر, وما ناله البعض أكثر مما يستحق وما افتقده البعض رغم أنه يستحق, والذي دعاني إلي الكتابة في هذا الموضوع الآن أنه صدر لمؤرخ مصري مرموق مؤخرا كتاب تعرض فيه لفترة حكم رئيس سابق وتحدث عن أوضاع الدرجات العلمية في الجامعة ومحاولات الترغيب والترهيب التي تعرض لها, كما أن أكبر كاتب سياسي معاصر قد تعرض هو الآخر للحياة الخاصة للملكة الراحلة فريدة في ثنايا حديثه عن تحليل بعض العقد في شخصية الملك الراحل فاروق الذي لازلنا نصر علي أنه لم يكن حاكما خائنا ولكنه كان ملكا فاسدا.
وقد دفعت بي تلك الأطروحات المتعاقبة إلي نوع من التأمل في عدد من الاستحقاقات التاريخية, وأنا أعلم بداية أن المساس بالرموز هو ولوج لطريق محفوف بالمخاطر مليء بالأشواك, فأنا أعتقد مثلا أن محمد علي ـ الذي يجب أن نحتفل بالمئوية الثانية لتوليه الحكم هذا العام احتفالا يليق بدوره ـ لم ينل استحقاقه التاريخي المناسب,فقد حول مؤرخو الثورة المصرية ساكن الجنان محمد علي الكبير إلي مجرد حاكم أجنبي وافد استخدم مصر كضيعة له ولأولاده من بعده, وهو منطق لايخلو من الافتراء ولايبرأ من ظلم, كما أن الخديو إسماعيل ـ المفتري عليه ـ قد ضاعت نواياه الطيبة وتصميمه علي تحديث مصر في غمار الديون الأجنبية ثم حمي التخوين التي لاتلحق, في رأيي, إلا بابنه الخديو محمد توفيق الذي فتح بوابات مصر أمام الاحتلال البريطاني وبطش بعرابي والعرابيين بطشا شديدا,
كما أنني أضيف إلي ذلك أن الاستحقاقات التاريخية للأسرة العلوية لم تكن عادلة في مجملها فضاعت في الزحام أسماء تستحق التقدير من أمثال عمر طوسون وعباس حليم ويوسف كمال و محمد عبدالمنعم فضلا عن أن الخديو عباس حلمي الثاني قد ساير الحركة الوطنية لفترة دفع ثمنها من عرشه, بل إن الملك فؤاء الأول ـ رغم جهامته وعدم إلمامه باللغة العربية ـ قد قدم للمجتمع المدني المصري وللتعليم إسهامات مشهودة,
وسوف أستعرض أسماء بعض الشخصيات اللامعة في مجالات السياسة والأدب والفن بل والرموز الدينية أيضا لكي أقول في حقها ما أعتقد أنه صواب ـ وجل من لايخطيء ـ فأنا أظن مثلا, وبعض الظن إثم, أن مصطفي كامل الذي مات في الرابعة والثلاثين من عمره قد استفاد من ظروف رحيله المبكر واكتسب تعاطفا شديدا باعتباره محامي دنشواي الأول وصب مصر وشهيد غرامها فنال قليلا أكثر مما يستحق, أما سعد زغلول فقد أفادته الظروف كما لم يحدث لزعيم وطني آخر, وأنا أحسب بالمناسبة أن مصطفي النحاس أشد منه صلابة وأكثر تفانيا رغم أنهما شريكا نضال وزعيما حزب واحد,
أما طلعت حرب الذي يحمل اسمه شارع وميدان في قلب العاصمة المصرية فإنني أعتقد أنه قد نال أقل مما يستحق لأن ريادته الاقتصادية وفرادته الفكرية تضعانه في موقع أعلي مما وضعنا فيه تمثاله!, وإسماعيل صدقي نمر السياسة المصرية لم ينل حظه من التقدير لآرائه الجسورة وفكره المستنير وقدرته علي استشراف المستقبل وسط ضباب الشعارات وفوضي العواطف, كذلك فإن الإمام محمد مصطفي المراغي شيخ الأزهر الأسبق يستحق تكريما أكبر,
كما أن الإمام محمود شلتوت لم يلتفت إليه الكثيرون خصوصا في دوره للتقريب بين المذاهب الإسلامية وإنصافه للشيعة الإثني عشرية, أما البابا الزاهد راهب الصحراء كيرلس السادس فلم ينل علي المستوي الوطني ما كان يستحقه من تكريم وإجلال لظروف تتصل بدور الدين عموما في العصر الناصري, أما محمد نجيب فهو يقف مظلوما في إحدي حارات التاريخ, بينما يتربع رفيقاه عبدالناصر والسادات في موقعيهما اللائقين في أكبر ميادينه,
وبالمناسبة فإنني أعطي كلا من الزعيمين الأخيرين استحقاقه التاريخي كاملا, فعبد الناصر هامة قومية عالية وبطل ذو كاريزما من نوع خاص يقف في مصاف التاريخ إلي جانب تلك الزعامات الضخمة التي كانت آثارها المعنوية أكثر من آثارها المادية, فهو نموذج من أبطال الأساطير الهيلينية أكثر منه رئيسا دستوريا مسئولا, أما السادات فهو ثاني رجل دولة في تاريخ مصر بعد محمد علي لأنه مثله كان يعرف مايريد ويجيد اللعب علي التوازنات الدولية والمتغيرات الإقليمية كما أن قدرة كل منهما ـ في عصره ـ علي المناورة السياسية هي أمر مشهود ومعترف به, ومن الذين أخذوا قليلا أكثر من حقهم أيضا أبو الدبلوماسية المصرية الدكتور محمود فوزي فأنا أسلم بأنه طراز رفيع للدبلوماسي التقليدي بكل مقوماته الكلاسيكية,
وقد كان ثاني وزير خارجية لمصر الثورة بعد السيد أحمد فراج طايع الذي لم يمكث إلا شهورا قليلة, ولكن د. فوزي لم يتمكن للأسف من توظيف إمكاناته في خدمة الثورة المصرية ربما لأنه آثر السلامة في تعامله مع الضباط الشباب أو لأن المساحة التي كان يشغلها المستشار السياسي الأول للرئيس عبدالناصر الأستاذ هيكل لم تترك للدكتور فوزي هامشا للحركة أو قدرة علي إبداء الرأي, حتي ترددت قصة مؤداها أنه في المرة التي طلب منه عبد الناصر المشورة في موقف معين أحال الدبلوماسي المخضرم إجابته إلي إلهام الزعامة الناصرية وفرادة القيادة السياسية!, وأنا هنا لا أتحامل إطلاقا علي الدكتور فوزي فأنا أعرف جيدا فضله علي جهاز الدبلوماسية المصرية ومكانته لدي تلاميذه ومعاصريه.
وإذا كان لنا أن نتطرق إلي مجال الأدب فإنني أظن أن توفيق الحكيم يستحق أكثر مما أخذ وطه حسين والعقاد نالا بالضبط استحقاقهما العادل, وفي مجال الفن فإنني أظن أن يوسف وهبي رائد المسرح المصري كان مجتهدا أكثر منه موهوبا بل إن قوة شخصيته وطريقة حديثه وارتفاع صوته وطول قامته كانت كلها بدائل فنية لتغطية فقر الموهبة وغياب مرونة الحركة علي المسرح, كما أن عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ قد نالوا مايستحقون,
أما فريد الأطرش وكارم محمود ومحمد قنديل فقد انتقص التاريخ من إمكاناتهم بسبب ظروف العصر الذي عاشوا فيه, والرموز الكبيرة التي حالت بينهم وبين الضوء الساطع. بقي أن أقول إن الإمام محمد عبده يحتاج إلي تكريم خاص في هذه الظروف بالذات, فقد كان ذلك الداعية المستنير والإصلاحي الكبير علامة مضيئة في عصره لا لأنه دعا إلي الإصلاح الديني والإجتماعي فحسب, ولكن أيضا لأنه امتلك أدوات التواصل الإنساني والانفتاح علي الآخر فكانت له مثلا مراسلات مع الأديب الروسي الكبير تولستوي كما كانت جولاته وصولاته في باريس مثار احترام وتقدير,
وإذا كنا نتحدث الآن عن الإصلاح الشامل فإن محمد عبده يظل القدوة والنموذج والمنار الباقي, وإذا تحركنا قليلا إلي الصعيد العربي فإنني سوف أختار نموذجين من بلد عربي واحد هو لبنان الشقيق محاولا رد الاعتبار لأنطون سعادة معتبرا تأسيسه للحزب القومي السوري ودعوته لدولة الهلال الخصيب بنجمته في قبرص هي دعوة لاتتعارض مع القومية العربية بل تقف في صف مواز مع الدعوة إلي وحدة وادي النيل, فالتكتلات الإقليمية هي في النهاية إضافة للعمل العربي المشترك, كذلك فإن الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون يحتاج تاريخه إلي نظرة أكثر عدلا وإنصافا منذ أن كان سفيرا لبلاده بالعاصمة البريطانية في أواخر الأربعينيات وصولا إلي رئاسته للدولة اللبنانية حيث أنني أظن أنه كان تعبيرا عن الخصوصية اللبنانية ولم يكن متطوعا بالعداء للعروبة أو المد القومي في عصر عبدالناصر فضلا عن أنه كان طرازا سياسيا لبنانيا يستحق التحليل الموضوعي والتقييم النزيه.
.. إنني أدرك أن السطور السابقة واستعراض بعض النماذج التاريخية قد تفتح علي أبواب الجحيم ولكنني أدعو الأجيال الجديدة من شبابنا إلي قراءة موضوعية ومنصفة للملفات التاريخية المختلفة وأن يتوقفوا طويلا أمام الرموز المتعاقبة, فتاريخنا لايحتمل الأصنام الجامدة ولكنه يحتاج إلي المراجعة الشاملة, وبالمناسبة فإنه لاتوجد مسلمات باقية ولكن توجد نظرات متطورة. وأنا أدعو الأجيال الجديدة إلي دراسة تاريخها الوطني دون تحامل علي فترات معينة أو حماس مفرط لفترات أخري وأحسب أن فتح الملفات لن يكون مسألة عقيمة, لأن المستقبل المشرق والإصلاح الحقيقي لا يأتيان إلا من ماض واضح وعبرة كاملة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/3/1/WRIT1.HTM