أضحي الإصلاح تعبيرا يتردد علي ألسنة الجميع بمناسبة وبغير مناسبة, وكأنما أصبح هو كلمة السر التي تحمل أسباب الخلاص من كل أزمة والمخرج من كل مشكلة, لقد أصبحت تلك العبارة مظلومة بحق, حيث تلوكها الألسنة بلا هدف وتكررها البرامج السياسية والخطط الاقتصادية بإسراف لايزيد كثيرا عن تكرار كلمتي الحرية والديمقراطية في خطاب التنصيب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي الثالث والأربعون في بداية الفترة الثانية من رئاسته للقوة العظمي الوحيدة في عصر الباكس أمريكانا, ولقد أصبح تعبير الإصلاح مطروحا في العامين الماضيين منذ ألقي وزير الخارجية الأمريكية السابق كولين باول محاضرته الشهيرة حول التغيير والديمقراطية في الشرق الأوسط, وبالمناسبة فليس منا من يرفض الإصلاح منهجا لحياة أفضل, وأسلوبا لتحقيق غايات إنسانية وطموحات وطنية, ولكن السؤال المطروح هو عن أي إصلاح نتحدث؟ وهل الإصلاح طرح عام لاسند له من الواقع ولا مقومات لديه من الظروف المحيطة؟ إننا نسجل بهذه المناسبة أن الإصلاح تعبير ارتبط بحركة التحديث في تاريخ مصر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين, ولم يكن تعبيرا لقيطا أفرزته الأحداث الدولية الأخيرة بعد الحادي عشر من سبتمبر2001, فنحن نتحدث في مصر عن رفاعة الطهطاوي كرائد للتنوير والإصلاح الفكري, ونتحدث عن محمد عبده كرائد للوعي والإصلاح الاجتماعي, فمفهوم الإصلاح ليس مفهوما وافدا علينا ولكنه مرتبط بنا, نابع من حاجتنا, متأثر بالخصوصية القومية والملامح الذاتية للهوية, لذلك نقدم هنا عددا من الاعتبارات المرتبطة بمفهوم الإصلاح:
أولا: الإصلاح عملية شاملة قد تكون تدريجية علي مراحل ولكنها لاتقبل التجزئة, فهي عملية متكاملة لها أبعاد سياسية وأخري اقتصادية وغيرها ثقافية, لذلك فإن محاولة الفصل بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي هي محاولة لاتستند علي أساس, فالديمقراطية هي حارسة التنمية وهناك شعوب تتقدم سياسيا ولكنها لاتحقق نفس القدر اقتصاديا, مثلما حدث في روسيا الاتحادية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي, فضلا عن أن بلدا مثل السودان هو نموذج تقليدي لهذا النمط من التفاوت بين الإصلاحين السياسي والاقتصادي.
ثانيا: إن الإصلاح لايعني مجرد تحديث البنية الأساسية أو إدخال عناصر التقدم التكنولوجي واستخدام آليات عصرية لم تكن معروفة من قبل, وأساليب تقنية لم تكن معتمدة من قبل, بل الإصلاح رؤية طويلة المدي تقوم علي صحوة عقلية ذات عناصر متجانسة لاتقف عند الإطار المادي او الهيكل البنيوي ولكنها تنسحب أيضا علي عملية التغيير الشاملة في القيم السائدة والتقاليد المرعية والأفكار المسيطرة.
ثالثا: إن الإصلاح لايقوم به إلا الإصلاحيون, وعندما كتب الأديب المصري الراحل أحمد أمين كتابه عن زعماء الإصلاح فإنه كان يفترض أن جوهر الشخصيات المحورية التي كتب عنها هو وجود ذلك القاسم المشترك بينها والتوحد في مفهوم الرؤية الاستباقية لاستشراف المستقبل, وقد يكون من الأسباب التي تحول دون تحقيق التقدم المطلوب وفقا لبرنامج الإصلاح المنشود هو غياب تلك الرؤية وافتقاد القدرة علي التنظير للغد.
رابعا: إن أخطر ما يتعرض له الإصلاح هو أن يتحول الي شعار مطاط ـ مثلما يحدث الآن ـ حتي يفقد معناه بسبب تكرار ذكره والحديث عنه, فتميع القضية وتتداخل الأمور وتختلط الأوراق, فالإسراف في استخدام تعبير الإصلاح في السنوات الأخيرة كاد يفقده مضمونه الحقيقي ومعناه الصحيح.
خامسا: إن الكل يتحدث عن إصلاح الأنظمة والشعوب, الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط.. من ينحازون إليه ومن يحاربونه في الخفاء, فالكل يتحدث عنه بغير استثناء, ولكن هناك بعض الأنظمة التي تسعي لإجهاضه وخطف شعاره والمزايدة عليه, بحيث يصبح في النهاية شكلا بغير مضمون, وشعارا بلا هدف, وكلمة جوفاء ليس لها دلالة محددة او مرجعية واضحة.
.. هذه اعتبارات قدمناها لإثبات حقيقة مؤداها أن الإصلاح عملية معقدة ومتشابكة لاتقف عند حدود معينة ولاترتبط بنظام بذاته, ولكنها تعتمد علي ذلك المثلث الذهبي الذي يقوم علي تطوير التعليم وتصدير الثقافة وتوطين التكنولوجيا, وكل محاولة للحيولة دون ذلك هي عملية معادية للجوهر الحقيقي للإصلاح, ونحن نظن أن الإصلاح عملية عقلية تدور في رأس الوطن وتبدأ بتغييرات جذرية وإن كانت تدريجية وتقبل عن رضا بالتعامل مع الآخر والتفاعل المستمر الذي يدفع الي الأمام, ولايمكن أن نناقش الاعتبارات السابقة دون أن نطرح وجهة نظرنا في المقدمات الطبيعية لعملية الإصلاح الجذرية في مجتمعاتنا العربية, وهي تقوم أساسا علي مدي نجاح عملية فك الاشتباك بين العناصر الخمسة التالية:
(1) السياسة والدين.. الشرق الأوسط الكبير بمحتواه العربي والإسلامي يحتاج الي عملية واعية تمنع تسييس الدين, وتعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر ولسنا بذلك دعاة توجه علماني او أصحاب نزعة لاتتحمس لدور الدين, كما أننا نعترف بأن الشريعة الإسلامية من الثراء والرحابة بحيث تقدم نموذجا في الحكم وأسلوبا في الحياة, ولكننا نري في الوقت ذاته أن تجارب المسلمين في هذا السياق لاتشجع ـ في ظل الظروف الدولية الحالية ـ علي مثل هذا الطرح, وندعو الأمة الإسلامية لأن تحسم أمرها وتحدد خيارها في عملية فك اشتباك مؤمنة وواعية بين الدين والسياسة, خصوصا في منطقة تلعب فيها القيم الروحية دورا شديد التأثير بالغ الحساسية, فضلا عن أن حجم الانفاق الديني في بلادنا يتجاوز الحدود التي شرعها الله بل يتحول الي نوع من الإسراف والتظاهر.
(2) السلطة والثروة.. لقد اختلطت تاريخيا العلاقة بين الإمارة والتجارة, فتاريخ الدولة الإسلامية العربية يدل بوضوح علي الخلط بين المال العام والخاص, وهي سمة لاتنفرد بها المجتمعات العربية الاسلامية وحدها ولكنها شائعة في المجتمعات التي تفتقر الي المصداقية السياسية والشفافية الاقتصادية والمحاسبة لمالية, ونحن ممن يرون أن من دعائم الإصلاح ضرورة الفصل بين الملكية والحكم, أي بين من يملكون ومن يحكمون, لأن زحف الثروة علي السلطة يشكل في النهاية جماعة ضغط من طراز خاص تجعل القرار السياسي أسيرا لمصالح البعض وأهداف البعض الآخر.
(3) الأغلبية والأقلية.. وأقصد بذلك العلاقة بين الأغلبية العددية والأقلية العددية أيضا لأن عالمنا العربي الإسلامي لديه درجة من التجانس الذي يجعل الحديث عن اختلافات عرقية او دينية أو عقائدية حديث بلا معني, فالعربية هي لسان المنطقة بأغلبيتها وأقليتها, والإصلاح ينطوي علي درجة من الرعاية التي تقدمها الأغلبية للأقلية, بحيث تحميها وتحرص عليها وتحيل التعددية الي نعمة وليست نقمة, فالأقليات العددية في العالم العربي الاسلامي تحتاج الي نظرة جديدة تواكب روح العصر وظروف ما جري في السنوات الأخيرة.
(4) الماضي والحاضر.. لا يمكن أن نظل أسري الماضي بكل ما له وما عليه نتغني بأمجاده ونبكي علي أطلاله ونترك الحاضر بمشكلاته ونهاجر من زماننا الي عصور سبقتنا, بينما الأولي بالهجرة هو أن نتقدم نحو المستقبل نفكر فيه ونتعايش معه ونبشر به, ولعل قضية الديمقراطية التي تعبر عن الحرية السياسية بأوسع معانيها, وتشير الي دولة القانون في أوضح صورها, هي خير دليل علي أهمية ما يسعي اليه الإصلاحيون من فك الاشتباك بين الماضي والحاضر.
(5) المؤسسة والفرد.. إن أخطر ما يواجه المجتمعات النامية عموما والشرق أوسطية خصوصا هو طغيان الفرد علي المؤسسة, بحيث تذوب في كيانه وتختفي وراءه بينما المؤسسة هي الأصل الباقي, والفرد هو الزائر العابر الذي يجب ألا يستحوذ علي منصب او يتمسك بموقع أو يتوحد مع سلطة, وذلك ينطبق علي كل مؤسساتنا الفكرية والثقافية والتعليمية, وكذلك سلطاتنا التشريعية والقضائية والتنفيذية, بل ويمتد بشدة وقوة ليصبح مرضا ينخر في عظام الجهاز الإداري للدولة, وأنا ممن يعتقدون أن الإصلاح الإداري غاية تسبق غيرها, وهدف نتطلع إليه من أجل نسف ذلك الركام الضخم من الروتين العفن والبيروقراطية المتوارثة حتي يتحقق توازن حقيقي بين المؤسسة والفرد علي نحو يضمن ثبات القيم الوظيفية والتقاليد المهنية والدورة الصحية للجهاز الإداري السليم.
.. إنها اعتبارات نسوقها, ومعايير نتحدث عنها, وكلها تشير الي ذلك الشعار العظيم الذي أصبح كالحق الذي يراد به باطل أو المظلة التي تحجب الضوء الحقيقي, إنه الإصلاح.. ذلك المفتري عليه!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/2/15/WRIT1.HTM