لدي شك كبير مرة أخري في أن الدين عامل أساسي في العلاقات الدولية المعاصرة.. نعم.. قد يستخدمه البعض ولكن لخدمة مصالح معينة وأهداف محددة, ذلك أن المواقف الدينية يجري توظيفها لخدمة أغراض سياسية, فلست أظن أن الصراع الذي يدور في عالم اليوم هو حرب مقدسة بين الأديان وإن كنت لا أقلل في الوقت ذاته من شأن نظرية صراع الحضارات, فالعامل الثقافي يلعب دورا رئيسيا في تكييف العلاقة بين المجتمعات المعاصرة فأنا لا أستطيع أن أقول ـــ مثلا ــ ان المسلم المصري أقرب إلي المسلم الإندونيسي منه إلي شريك الوطن ورفيق التاريخ وصنو الحياة القبطي المصري, فالثقافة المشتركة في رأيي تحدث انسجاما وامتزاجا أقوي بكثير من وحدة روحية بعيدة تفتقر إلي الشراكة الإنسانية, إنني أريد أن أقول صراحة أن القوي العظمي في عالم اليوم لاتتصرف من منطلقات دينية وإن اعتمدت علي ادعاءات تنطلق من قواعد روحية أحيانا, ولو أخذنا السياسة الأمريكية كمثال فسوف نجد أنها قد تعاونت مع التيارات الإسلامية طوال سنوات الحرب الباردة وارتبطت معها في تحالف ضمني في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق والأنظمة الشيوعية التي سادت في القرن الماضي ثم هاهي تعود اليوم لتستبد بها
الهواجس وتسيطر عليها المخاوف من كافة الجماعات الإسلامية بل وتربط بين معظمها وبين الارهاب الدولي كظاهرة أممية, ويهمني هنا أن أسجل عددا من الملاحظات التي تؤكد أن السياسة والمصالح تسبقان الدين والعقائد في العلاقات الدولية المعاصرة وأهم هذه الملاحظات الشواهد التالية: ـــ
أولا: ــ إن العلاقات الأمريكية ــ التركية هي نموذج لتحالف المصالح رغم اختلاف الجذور الحضارية والأسس الدينية والمنطلقات الثقافية, فدولة أتاتورك تمثل نموذجا للعلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات طويلة في إطار حلف الأطلنطي تارة وفي إطار المصالح المشتركة في أوروبا ومنطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط تارة أخري, بل إنني لاحظت من زيارة أخيرة لدولة قبرص حجم المرارة التي يشعر بها القبارصة اليونانيون تجاه الموقف الأمريكي منهم والداعم بشكل كبير للسياسة التركية والذي تجلي في خطة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان التي طرحت للاستفتاء فرفضها اليونانيون ووافق عليها الأتراك في محاولة أمريكية غير متوازنة لتوحيد الجزيرة بصورة لاتختلف كثيرا عن التصور التركي لمستقبلها, بل إننا نلاحظ دائما أن خصوصية العلاقات التركية الأمريكية كانت هي العنصر الضاغط علي الاتحاد الأوروبي ليفتح أبوابا للتفاوض مع أنقرة من أجل تحقيق حلمها التاريخي في أن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي ولو في المؤخرة بدلا من أن تكون قوة قائدة في الشرق الأوسط ولو في المقدمة! ولذلك فإن العلاقات التركية ـــ الأمريكية هي نموذج لتوظيف المصالح دون اعتداد بالخلفية التاريخية أو الأرضية الدينية.
ثانيا: لعلنا لانزال نتذكر كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية قد ضربت الصرب وهم مسيحيون أرثوذكس لصالح الأغلبية المسلمة في أقليم كوسوفا ولم تتخذواشنطن في ذلك الوقت الدين معيارا لصنع سياستها علي حساب مصالحها, فالمهم لدي واشنطن دائما هو أن تكون هناك نظم طيعة متعاونة بغض النظر عن مصداقية ديمقراطيتها بل وشرعية وجودها.
ثالثا: ـــ لقد كانت الثورة الإسلامية في إيران هي نقطة التحول في العلاقة بين الإسلام والولايات المتحدة الأمريكية وربما الغرب عموما لأنه عندما اصطدمت المصالح جري فك الارتباط سريعا بين التيار الإسلامي والسياسات الأمريكية وهو أمر يكشف عن الحقيقة التي نتحدث عنها ويؤكد أن الاهتمام منصب بالدرجة الأولي علي من يستطيعون اتخاذ القرار الرشيد والمواقف الصحيحة في الوقت المناسب وليس الجانب العقدي هو المؤثر الأساسي في سياسات القوي الكبري إنما المصالح هي الفيصل دائما.
رابعا: ــ إن تنامي الظاهرة الإسلامية في الشرق الأوسط في العقود الثلاثة الأخيرة هو الذي صنع صدام المصالح قبل الحديث عن صدام المعتقدات, فالإسلام السياسي الذي بدأ بحركة الأخوان المسلمين كان يمضي في طريقه منسجما مع القوي الغربية مباركا للأنظمة الملكية مطالبا فقط بالدعوة الإسلامية وتطبيق الشريعة علي أهلها, ولكن الأمر تجاوز ذلك عندما اختلطت التيارات الإسلامية المتباينة, فضلا عن تصاعد ظاهرة العنف بشكل غير مسبوق لم يقتصر علي المجتمعات الإسلامية وحدها ولكنه تجاوز ذلك ليصبح ظاهرة عالمية تهدد الأمن والسلم الدوليين.
خامسا: ـــ عندما ارتبطت حركة المقاومة الفلسطينية بالمشروع الإسلامي فإن تطورا ضخما طرأ علي رؤية الآخر لها فالنضال الوطني من أجل الاستقلال والحرية كان أمرا طبيعيا ثم جاء اختلاط المقاومة ضد الاحتلال بالأصولية الإسلامية ليصنع حاجزا جديدا يضرب مصالح بعض القوي الدولية والإقليمية مباشرة ولعل نموذج العمليات الاستشهادية هو خير دليل علي ذلك, بل إن التمرد الكشميري ضد الهند والشيشان ضد روسياالاتحادية بالإضافة إلي سنوات الصراع في البوسنة والهرسك أقول إنها كلها قد تركت بصمة دينية علي تلك الصراعات ومزجت بين الدوافع العقيدية وبين المصالح الدولية.
... من هذه الملاحظات الخمس يمكننا أن نقول إن الجانب السياسي في العلاقات الدولية والمرتبط بالمصالح الاقتصادية هو الذي يحدد في الغالب أين تقف القوي المختلفة من المشكلة الواحدة, بل إنني مازلت أتذكر تصريحا للسيد دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي عام2003 عندما قال إن بلاده لاتمانع في قيام حكومة إسلامية في العراق شريطة ألا تكون تلك الحكومة علي النمط الإيراني, أي أن وزير الدفاع الأمريكي يريدها إسلامية طيعة تتجاوب مع السياسة الأمريكية ولاتمارس التحريض ضدها, بل إننا مازلنا نرصد اهتماما متزايدا من جانب الدوائر السياسية سواء في واشنطن أو في عواصم دولية أخري بقضايا الوحدة الوطنية والاندماج السياسي مع متابعة دقيقة للظاهرة الإسلامية واتصالات مستمرة قد تصل إلي حد الغزل المتبادل مع التيار الإسلامي المعتدل الذي ينبذ العنف باعتباره قوة سياسية موجودة لايمكن إنكارها, إنني أريد أن أقول بهذه المناسبة أن الولايات المتحدة الأمريكية تفضل التعامل مع الأنظمة الطيعة والشخصيات المتعاونة ولايعنيها بعد ذلك إن كان النظام ديمقراطيا أو كانت الشخصية نزيهة, فالمهم هو إثبات الولاء والتعاون الدائم من أجل الحفاظ علي مصالح واشنطن,
أما التحريض علي سياساتها والتعبئة الشعبية والإعلامية ضدها فهي أمور تقلق القوة العظمي وتدعوها إلي اتخاذ مواقف أكثر تشددا وأقل تفهما وأسرع تأثيرا, لذلك فإنني أقول لمن نسوا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد وقفت عام1981 موقفا سلبيا في المواجهة بين الكنيسة القبطية والرئيس الراحل أنور السادات وعندما اعتقل الأخير معظم الرموز السياسية في بلدنا
وأضاف إليهم قيادات الكنيسة وعلي رأسها البابا شنودة الثالث الذي اعتصم بالدير فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تضغط علي السادات الحليف القوي والزعيم المحبوب لدي الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وغفرت له ما فعل لذلك فإنني أقول إن أية محاولة للاستقواء بالأجنبي هي محاولة تدعو للسخرية لأن الأجنبي يحتكم إلي مصالحه الحقيقية ولايحتكم إلي عقيدته الدينية مهما ادعي غير ذلك أو تظاهر به, فالوطن في النهاية يجب أن يحل مشكلاته ذاتيا ويواجه الخلافات مع شركاء الحياة في إطار الأسرة الواحدة, أما الأجنبي فالملتحف به عار ولو بعد حين, ولحسن الحظ فإن أقباط مصر قد تنبهوا لهذه النقطة منذ البداية وعاشوا حياة الوطن بما فيها وما عليها ورفضوا دائما حماية الأجنبي أو الاعتماد عليه إلا في استثناءات قليلة لعناصر شاردة معظمها من الطيور المهاجرة وليست من الكيانات الثابتة, إنني أريد أن أقول في ختام هذه السطور إن العبرة في العلاقات الدولية والصراعات الإقليمية تكون دائما بالمصالح والمكاسب والاستراتيجيات وليست أبدا بالعقائد والملل والديانات.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/2/1/WRIT1.HTM