يلتقي الكاتب مع قرائه عندما يكتب إليهم وأيضا عندما يقرأ منهم خصوصا إذا كانوا من أصحاب المكانة الأدبية أو الرؤية السياسية أو التوجهات الأكاديمية ولذلك فإنني أجمع بعض الردود والتعليقات التي أتلقاها وأفرد لها مقالا مستقلا بين حين وآخر حتي يكون الأمر في النهاية حوارا بين طرفين وليس مجرد حديث مرسل من طرف واحد.
ولقد تلقيت رسالة من الدكتور ماهر شفيق فريد أستاذ الأدب الإنجليزي المتفرغ بآداب القاهرة وفيها يقول: أنه قد انتهي من قراءة كتابي من نهج الثورة إلي فكر الإصلاح وخرج من قراءته بخليط من الموافقة والمخالفة والإضافة, أما الموافقة فهي ـ علي حد تعبير الكاتب الكريم ـ فتدور حول جهاز الفكر الثاقب الذي يفحص جدل الثورة والإصلاح محاولا أن يخرج منهما بمركب جديد يستبقي خير ما في النهجين ولا يملك المرء إلا أن يبدي إعجابه الشديد بما تقوله عن أهمية تعزيز دور المؤسسة فوق دورالفرد وإعطاء الأحزاب والنقابات والهيئات ـ حكومية وأهلية ـ دورا أكثر فاعلية, وكون دوران النخبة وتداول السلطة وتوالي القيادات جزءا من طبيعة الحياة وفلسفة التاريخ وحركة الوجود وتأكيدك علي عنصر المرونة البرمجاتية إلي جانب صلابة المبدأ في شخصية عبد الناصر ومعالجتك قضية اشتغال الشباب بالعمل السياسي ودعوتك إلي استعادة التقاليد المهنية والمهارات الحرفية ومحاولتك رد الإعتبار للخديوي اسماعيل و مصطفي النحاس و إسماعيل صدقي لأنهم ظلموا جميعا وخصوصا الأخير منهم وهذه كلها استبصارات نحن أشد مانكون حاجة إلي تأملها وتداول الرأي فيها, ولكني أخالفك في أمور منها ما يتعلق بالسياسة ومنها ما يتعلق بالثقافة
فأنت تقول ضمنا في كتابك أن العقاد وطه حسين والحكيم كانوا يستحقون جائزة نوبل للأدب ولكنها تخطتهم, وأقول كلا فثلاثتهم ـ علي إجلالي البالغ لهم ـ مهمون بالمقاييس المحلية لا بالمقاييس العالمية, ولدي الغرب عشرات من النقاد والباحثين والمترجمين والمفكرين والقصاصين وكتاب المسرح والشعراء ومؤرخي الأدب وكتاب السير والتراجم الذاتية والغيرية وليس بين أدبائنا العرب في القرن العشرين من يستحق جائزة نوبل غير ثلاثة هم ـ والحديث مازال للدكتور ماهر شفيق فريد ـ بترتيب الجدارة ادوارد خراط أولا و أدونيس ثانيا و نجيب محفوظ ثالثا, هؤلاء هم البؤر الإبداعية المشعة حقيقة في قلب ظلمة مزدحمة, واستأذنك في أن أضيف إلي مقالك حصاد القرن العشرين لمصر عندما تذكر من أهل الفكر والثقافة والأدب محمد عبده ولطفي السيد وشوقي و حافظ وطه حسين والعقاد وسلامة موسي و الحكيم ونجيب محفوظ ولكني أضيف إليهم أربعة أسماء أري أنها من بعض الجوانب لا تقل أهمية عن تلك التي ذكرتها وأخشي أن تغفلها الذاكرة الأدبية, وهذه الأسماء ـ علي اختلاف توجهاتها وتعدد سبل الحياة معها ـ هي إسماعيل مظهر وعلي أدهم و أمين الخولي و لويس عوض, ثم يستطرد الدكتور ماهر شفيق ليقول,
فإنما هذه آخر رسالة إليك حلقة حلقة في سلسلة حوار متقطع ولكنه متصل بيني قارئا وبينك كاتبا, وبالحوار وحده تثري الآراء وتغتني الذاكرة وتتعدد الاتجاهات ويتسع أفق الرؤية كما تتراجع مساحات الرأي الواحد ويزدهر الفكر نتيجة شحن الأذهان وإرهاف الوجدان وإنعاش الذاكرة واستنهاض الأمم, ونلاحظ أن هذه الرسالة قد كتبها إلينا أديب مرموق ينتمي أكثر من غيره لمدرسة المفكر الراحل لويس عوض وأنا لا أملك إلا أن أقول بدوري إنني أختلف معها وأتفق, أحاورها ولا أرفضها, خصوصا وأن علاقة وثيقة ربطتني بذلك المفكر الراحل الذي قضي عمره كاتبا حرا غير تقليدي يقف إلي جانب الشخصيات الموسوعية ويلحق مباشرة بركب العظام من أمثال العقاد و طه حسين بل إنني أظن أن ذلك المفكر الراحل لم يأخذ حقه من التقدير والتكريم وعندما دعاني كاتب مصري هو الأستاذ نسيم مجلي لكتابة مقدمة لكتاب أصدره عن معارك لويس عوض السياسية والأدبية لم أتردد في ذلك اعترافا مني بقيمة ذلك المفكر الضخم واسهاماته المشهودة في عوالم الفكر والأدب والسياسة, وأحسب أن الدكتور ماهر شفيق واحد من الفروع الممتدة عن شجرة لويس عوض المثمرة, ولكن ليسمح لي الصديق العزيز صاحب الرسالة في ألا أشاركه تصنيفه لاستحقاقات بعض كبار مفكرينا,
فأنا ممن يظنون أن اسماء العقاد و طه حسين و سلامة موسي و الحكيم بل وايضا عبقري القصة القصيرة يوسف إدريس كانوا جميعا ـ بالإضافة إلي غيرهم ـ رموزا تستحق نوبل العالمية مثلما كان يستحقها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة بل و نزار قباني أيضا وإن كنت أظن أن حصول الأستاذ نجيب محفوظ عليها كان فيه تكريم ضمني لهؤلاء جمعيا, أما حديث الدكتور شفيق عن الاستحقاقات الموضوعية لبعض الشخصيات التاريخية فهو أمر يشغلني كثيرا لأنني أظن أن تاريخنا السياسي والثقافي والاجتماعي يحتاج إلي مراجعة شاملة وعادلة فعلي سبيل المثال فإنني ممن يظنون أن أسماء من مثل الخديوي اسماعيل و أحمد عرابي و مصطفي كامل وسعد زغلول و مصطفي النحاس و اسماعيل صدقي و محمود فوزي و كميل شمعون والملك الراحل فيصل بن عبد العزيز والفنان يوسف وهبي وغيرهم في كافة المجالات هم نماذج للتفاوت غير العادل عند تقييم أدوارهم, فبعضهم أخذ أكثر مما يستحق بينما لم يحصل البعض الآخر علي ما يجب أن يحصل عليه, فما أكثر المظاليم في حواري التاريخ بينما لمع بعض المتنطعين في ميادينه الكبيرة وشوارعه الواسعة ولست أشك لحظة في أن السبب الذي يقف وراء غياب العدالة التاريخية عند تقييم الشخصيات العامة والأدوار الهامة في تاريخنا القومي إنما يرجع إلي عامل المعاصرة التي تجعل جزءا كبيرا من كتابات المؤرخين خاضعا للأهواء والمصالح متأثرا بالانتماءات السياسية والمشارب الفكرية, ولعل مؤرخا كبيرا بحجم عبد الرحمن الرافعي المنتمي إلي الحزب الوطني ـ حزب مصطفي كامل ومحمد فريد ـ قدجعل نظرته للوفد وقياداته تفتقر إلي الموضوعية بدرجة واضحة ومازلت أتطلع, وقد كان لي في ذلك حديث منذ سنوات مع المهندس إبراهيم المعلم رئيس اتحاد الناشرين العرب, إلي إصدار سلسلة موثقة عن حكام مصر بدءا من عصر محمد علي وانتهاء بعصر الرئيس مبارك بحيث يسهل الحصول علي كتاب عن كل منهم بالعربية ومترجم للغات الأجنبية تعده مجموعة من الباحثين الثقاة في تجرد ونزاهة, فعندما نطلب كتابا عن الخديوي اسماعيل أو الملك فؤاد أو السادات أو عرابي أو سعد زغلولأو مصطفي النحاس فإننا نجد تحت أيدينا كتبا وثائقية نقدمها للأجيال الجديدة التي شوهنا تاريخنا أمامها وقمنا بحملات لصالح فترات تاريخية معينة وزعامات محددة علي حساب الحقيقة, فظلم من ظلم ونال من لايستحق أكثر مما يجب.
... إن رسالة الدكتور ماهر شفيق ومن خلال تعليقه علي كتابنا المشار إليه إنما تضع يده علي عدد من القضايا الهامة والإرهاصات الملهمة التي تسمح بفتح نوافذ الفكر وإعمال أساليب البحث العلمي في الدراسات الاجتماعية والأدبية, وهو عندما يحيي فكرتنا عن طغيان دور الفرد علي المؤسسة في وطننا العربي الكبير فإنه يلمس معنا واحدة من الأعراض الخطيرة للنمو الاجتماعي دون التنمية البشرية وإنني علي يقين من أن الرسائل من طراز ما كتبه الدكتور ماهر شفيق هي علامات مضيئة يهتدي بها الكاتب خصوصا إذا كان من أولئك الذين صاحوا صيحة مدوية عندما كتبنا مقالنا الشهير في جدوي الكتابة منذ أعوام قليلة, وقد حان الوقت لفتح الأبواب أمام حوار وطني واسع يتناول كافة القضايا بغير استثناء ويفتح جميع الملفات دون استبعاد لأن المعرفة المتبادلة والنقاش الدائم هما ركيزتان لإشاعة ثقافة ديمقراطية مواكبة للموقف الدولي الذي يتحدث عن صراع الحضارات تارة وعن العولمة تارة أخري ولكنه في كل الأحوال يموج بالاضطراب ويحفل بالفوضي ويتسم بازدواج المعايير وغيبة الموضوعية وافتقاد التجرد... إنها سطور خصصناها للحوار مع أستاذ جامعي مرموق ومفكر له مكانته ودوره تعميما للفائدة واحتراما للرأي وتقديسا للحرية.
|