لا أظن أن بلدًا فى العالم يملك من كنوز الآثار ما يملكه المصريون، ولا أظن أن بلدًا أهدر الكثير من تلك الكنوز– طوعًا أو كرهًا– مثلما حدث مع المصريين فنحن بلد يعيش على رقائق حضارية متعددة ورث منها المصرى تراثًا ضخمًا ومن فرط الوفرة فى الآثار من مقابر ضخمة وتماثيل رائعة ونقوش فريدة ورسوم باقية فإن المصرى تعود عبر الأحقاب المتوالية على الشعور بأن الآثار لديه كثيرة، وأن تحت كل حجر أثر- كما يقولون– فأفرط فى الإهداء فى ظل بعض ظروف مصر الحديثة كما تعرض للسطو الصارخ أثناء عمليات الاستكشاف والتنقيب كما كانت لدينا قاعدة تعطى المكتشف نصف ما يكتشفه ناهيك عن عمليات سرقة الآثار التى مارسها المصريون أنفسهم وهربوا بها كميات لا تخطر على بال من التحف الأثرية والقطع النادرة حتى أصبحت المسلات المصرية تزين بعض المدن الكبرى و«رأس نفرتيتى» تتألق فى متحف برلين و«حجر رشيد» يلمع فى المتحف البريطانى بلندن، إننا أمام أكبر عملية نهب فى التاريخ المصرى الحديث، فإذا انتقلنا إلى الآثار الإسلامية من قطع فاطمية وتحف مملوكية ونقوش عثمانية ومبان خديوية فهى تملأ المتاحف فى دولة خليجية توهم حكامها أن اختطاف الآثار النادرة من مصر يعنى أنهم قد أصبحوا مثلها تاريخًا وحضارة ومجدًا! إننى أحيى جهود الدولة المصرية ووزراء الآثار بغير استثناء، وأخص بذلك صديقى الوزير الحالى د. «خالد عنانى» وهو امتداد لمدرسة من عرفوا قيمة الآثار وعشقوا تراب مصر من أمثال «على رضوان» و«زاهى حواس» وأيضًا «حازم عطية الله» وغيرهم من الآباء الكبار لمدرسة الآثار المصرية من أمثال «سليم حسن» و«أحمد فخرى» وغيرهما من أساطين الحفائر وأساتذة المصريات، ومازلت أتذكر من عملى الدبلوماسى أن الأطفال فى بعض الدول التى عملت فيها يعرفون التفاصيل عن الآثار المصرية وترتيب الأسر القديمة وتتابع مراحل مصر الإغريقية واليونانية والقبطية مع دراية واسعة بمراحل الدولة الإسلامية فى مصر حتى كانت معلوماتهم تبهرنى وتجعلنى أتذكر المقولة الشهيرة «إن شاعر الحى لا يطربه، وأنه لا كرامة لنبى فى وطنه» فها هم الأجانب يتطلعون إلى آثارنا من كل حدب وصوب، ونحن لا نعطى ذلك اهتمامًا أو تقديرًا وننظر إلى الأمر كما لو كان هبة لا تنتهى ومنحة لا تتوقف، ولقد كنت أطوف ببعض أحياء القاهرة القديمة منذ أسابيع ورأيت الأضرحة والأسبلة بل والمساجد القديمة وقد أحاط بها البشر من كل جانب طمسًا وتلويثًا وإهدارًا كما أننا نسمع كل يوم عن محاولات التنقيب عن الآثار فى المنازل خصوصًا فى صعيد مصر على نحو يؤدى غالبًا إلى كارثة انهيار منزل وسقوط ضحايا، ولقد عشت فى مدينة «فيينا» سنوات أربع سفيرًا لبلادى فى «النمسا»، وأدهشنى أنهم كلما وجدوا عدة أحجار رومانية أقاموا حولها الحواجز واستقدموا الحوائط الزجاجية المضادة للرصاص وملأوا الدنيا إعلانًا عما لديهم ولو كان قليلًا بينما نحن لا نفعل ذلك تجاه ما لدينا ولو كان كثيرًا، وأنا أدهش كثيرًا أن عدد السائحين القادمين إلى مصر لا يتناسب مع إمكاناتها الحضارية والمناخية، فضلًا عن بحرين مفتوحين فى الشمال والشرق مع طقس رائع فى «الأقصر» و«أسوان» شتاءً ومنتجعات رائعة فى «شرم الشيخ» و«الغردقة» وما حولهما فضلًا عن الساحل الشمالى الذى كان يمكن أن يكون هو (الريفيرا المصرية) التى تتفوق على نظيرتها الفرنسية والإيطالية بل إننى أظن صادقًا أن القاهرة ليست مدينة ولكنها متحف كبير وعندى أمل فى أن يكون إنشاء العاصمة الجديدة مبررًا لتعظيم العاصمة التاريخية وتخلصها من كثير مما لا تحتمله حتى تعود إليها الميادين والحدائق بحيث يصبح فى الإمكان تفريغها من التراكم السكانى الذى تئن تحت وطأته.
إن آثارنا– إيها السادة– هى أغلى سلعة نملكها على الإطلاق وهى مصدر فخرنا ومبعث اعتزازنا، فتحية للقائمين عليها والحريصين على سلامتها، والمطاردين لكل من يحاول إهدارها أو تهريب بعضها أو العبث بشىء فيها، إنها التراث الباقى والذاكرة الحية ودرة الوطن.
جريدة المصري اليوم
6 فبراير 2019
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1367501