مازالت أظن أن عام2005 عام له أهميته الكبري في التاريخ النيابي للوطن والتطور السياسي المصري لا لأنه فقط العام الذي يجمع بين الانتخابات البرلمانية والرئاسية متواليين في أشهر قليلة, لكن ايضا لأنه يرتبط في الوقت ذاته بمطالب الإصلاح ودعاوي التغيير وتعميق الديمقراطية, وهي أمور قطعت فيها مصر شوطا يصعب انكاره, لكن الظروف الدولية والاقليمية دفعت بهذه الأمور إلي السطح في الفترة الأخيرة, وبرغم كل الحساسيات من أي مؤثرات أجنبية إلا أننا نتذكر الكلمة التي ألقاها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في نوفمبر2003 وأشاد فيها بالتطور في عدد من الدول العربية ثم أفرد لمصر جملة مستقلة تحدث فيها عن أهمية دورها في قيادة الديمقراطية في العالم العربي.
كما قادته من قبل نحو السلام, وفي ظني أن الأمر يقتضي نظرة شاملة ورؤية واضحة تستكشف أبعاد ما يجري, وتستلهم الخطوات التالية من الروح الجديدة التي دبت في أوصال الأمة وبدأت تنعكس علي كل الأصعدة ومختلف الاتجاهات لأن البداية الحقيقية للإصلاح هي الاعتراف بنقاط الضعف ورفض الاستسلام لها ومحاولة الفكاك منها والخروج عليها, وفي ظني أن مصر تقف علي أعتاب مرحلة جديدة من مراحل التطور تقوم فيها بعملية توازن بين الأجيال واستخراج لكافة الطاقات الكامنة في ضمير هذا الشعب العريق, ولن يتحقق ذلك إلا بالتركيز علي درجة عالية من الشفافية والمصداقية للانتخابات المقبلة, فالبرلمان هو ضمير الأمة ويجب أن يكون اختيار أعضائه محاطا بكل الضمانات الديمقراطية لكي يكون ممثلا حقيقيا للشارع السياسي وتعبيرا دقيقا عن المرحلة بكل ما لها وما عليها وفي هذا السياق فإننا نوجز الملاحظات التالية:
أولا: ان عمر النظام النيابي في مصر طويل لايبدأ عام1866 فقط لأن هناك إرهاصات مبكرة سبقت ذلك في صورة مجالس للشوري غلب عليها الطابع الديني أحيانا والطابع السلطوي أحيانا أخري ومصر في هذا السياق دولة رائدة سبقت كل دول المنطقة بل ان تجربتها البرلمانية مضت موازية لبعض البرلمانات في جنوب أوروبا, لكن مأساة العمل النيابي في مصر كانت دائما هي المقاطعة الفجائية, وتوقف التجربة في مراحل مختلفة من تاريخها, اما بسبب الاحتلال الاجنبي أو الطغيان الداخلي أو سيادة منطق الشرعية الثورية بديلا للشرعية الدستورية وهو أمر انتقص من عمر الحياة البرلمانية المصرية وكان خصما تلقائيا من حسابها.
ثانيا: إن الحركة الوطنية المصرية تعلقت بالدستور ـ أبو القوانين ـ وجعلته واحدا من أبرز غاياتها, وذلك يدل علي وعي مبكر بسيادة القانون وميلاد الحس الديمقراطي الفطري, الذي توجت به الجماهير المصرية آمالها في دستور عام1923 الذي تعرض للالغاء تحت سطوة أحزاب الاقلية وبطش القصر الملكي, وفي رأيي أن ارتباط الحركة الوطنية بالدستور كان ولايزال غاية تعكس احترام الشعب المصري للشرعية وتمسكه بدولة القانون خصوصا أن البرلمان المصري يعمل في إطار تلك الشرعية ويحتمي بذلك الدستور.
ثالثا: ظل النظام الحزبي المصري يعاني تاريخيا من سلبيات الفوقية والعزلة حتي أننا لانكاد نعرف نموذجا لشعبية حزب سياسي إلا في الوفد المصري في أثناء الفترة الليبرالية الممتدة بين ثورتي1919 و1952 والسبب في ذلك أن الحزب تبني مطالب الحركة الوطنية وقاد الأغلبية المصرية تجاه أهدافها الثابتة في الاستقلال والدستور, ولعل ظاهرة ضعف النظام الحزبي في مصر تأخذ طريقها إلي الزوال في ظل التوجهات الاصلاحية الجديدة انعكاسا لظروف دولية واقليمية ومحلية لاتخفي علي أحد.
رابعا: إن المؤسسة التشريعية في مصر قد استقطبت تاريخيا عائلات ورموزا وامتدت بهم برغم تغيير الظروف السياسية والنظم الحاكمة لذلك خضعت الانتخابات المصرية لنفوذ الثروة أحيانا ونفوذ العصبية أحيانا أخري, ولم تتمكن في كثير من الظروف من إفراز من يمثلون الأمة بصورة صحيحة وعلي كل حال فإن هذا الامر ليس مقصورا علي مصر, فالانتخابات ـ أي انتخابات ـ تخضع لتربيطات ولها تكنيك خاص لايعبر بالضرورة عن شعبية الفائز قدر تعبيره عن قدرته علي استخدام الظروف المتاحة للوصول إلي المقعد الذي يريده.
خامسا: إن الأمة وتدني المستوي الثقافي والتعليمي تشكل كلها عقبات في طريق الديمقراطية السلمية ومع ذلك فإن التجربة الهندية التي تمثل أكبر ديمقراطية في العالم علي الاطلاق لم تمنعها هذه العقبات ولم يحل الفقر فيها دون الوصول إلي درجة عالية من الديمقراطية العصرية التي تمثل نموذجا يدعو إلي التأمل, فالقضية إذا محكومة بطبيعة الشعب وشخصية الأمة والإيمان الحقيقي بالديمقراطية أسلوبا للحياة ونمطا للسلوك ونظاما للحكم.
سادسا: إن ضعف المشاركة السياسية يمثل عقبة كبري أمام الديمقراطية والتمثيل الصحيح للقوي الفاعلة في المجتمع, فالعزوف عن المشاركة في الانتخابات والرغبة في الابتعاد عن الحياة السياسية وغياب التربية الحزبية أدت في مجملها إلي نوع من اللامبالاة, بل والاستخفاف بالعمل العام أحيانا, ونحن نعتقد بهذه المناسبة أن نسبة الاقبال علي صناديق الاقتراع هي التي تحدد ديمقراطية الشعب وحماسه للتعبير عن رأيه أكثر من نتائج الانتخابات ذاتها فعدد المقترعين هو المعيار الحاكم لعمق التجربة الديمقراطية ومدي نجاحها.
سابعا: إن العملية الانتخابية تختلف في المدينة عنها في القرية كما أن تمثيل الحضر يختلف عن تمثيل الريف, لكن يظل الأمر في النهاية تجسيدا لعملية انتخابية واحدة يجب أن تحتوي كل القوي السياسية الفاعلة في الشارع السياسي بغير استثناء, والفيصل في الأمر كله يتوقف علي قبول تلك القوي لمظاهر الديمقراطية التي تبدأ بأن الأمة مصدر السلطات وتنتهي بتداول السلطة وتمر بسيادة القانون.
لقد قلنا من قبل إن عام2005 هو عام الديمقراطية في مصر أو هكذا يجب أن يكون لأن فيه انتخابات رئاسية, وأخري نيابية, كما أن وجهات النظر المختلفة قد بدأت تتقارب تجاه الأمور المتصلة بالإصلاح السياسي والدستوري كما أن مصر قد خطت خطوات فاعلة في هذا السياق, ولقد كانت المبادرات التي اتخذها النظام السياسي المصري في السنوات الأخيرة بمثابة تمهيد لمرحلة جديدة من الليبرالية والانفتاح الاقتصادي ومحاولة ربط الحياة العامة في مصر بالقضايا الأساسية للمواطن مثل التعليم والصحة والإسكان والتشغيل والاستثمار لأن الديمقراطية في النهاية ليست تحليقا في فضاء لانهائي وليست ايضا تنظيرا فلسفيا لا مبرر له, ولكنها تبقي في النهاية أسلوبا للإصلاح وآلية للتغيير وأداة للتطور,
وحيث أن مصر دولة قائدة ورائدة فإنها تلتزم أمام ضميرها الوطني بأكبر قدر من الشفافية والمصداقية والمحاسبة ونقد الذات, وقد يتحدث البعض عن الإجراءات المطلوبة لتحقيق ذلك, ويشيرون بصفة خاصة إلي الإشراف القضائي علي العملية الانتخابية وهوأمر أعطي الديمقراطية في مصر بعدا جديدا وجعل لها طرحا خاصا ومازالت أذكر الحفاوة الإعلامية الدولية التي استقبلت بها انتخابات عام2000 عندما انحاز الرئيس إلي المنطوق الدستوري الذي يلزم بالاشراف القضائي علي الانتخابات البرلمانية في كل الدوائر,
ولست أزعم أن الصورة وردية أو أن ديمقراطيتنا كاملة, فالطريق مازال طويلا والعقبات متعددة لكن الإرادة السياسية والعناد الوطني كفيلان بالتغلب عليها واجتذاب العناصر التي لاتثق في الحياة السياسية, وتفضل أن تكون جزءا من الأغلبية الصامتة, وأنا ممن يظنون أن الجدية والاستمرار يمثلان عنصر استقرار, ويشدان قاطرة العمل الوطني إلي الأمام, إنني أزعم أن الانتخابات البرلمانية المقبلة سوف تكون واحدة من أشرس الانتخابات في تاريخ مصر النيابي فضلا عن أن الموضوعية تلزمنا في النهاية بالإشادة بالتيار الإصلاحي في الحياة السياسية المصرية لأن الإصلاح هو مسئولية دائمة قبل أن يكون تكليفا طارئا
كما أن التغيير أمر ضروري في مجتمعات الحياة العصرية التي يتطلع إليها المصريون كبداية علي الطريق الصحيح وخطوة تفتح الشهية لحياة سياسية ثرية تؤدي إلي تمثيل الشارع السياسي علي نحو يتفق مع تقاليد العصر وقيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/12/21/WRIT1.HTM