أمضيت أسابيع بمدينة نيويورك في شهر اكتوبر الماضي وأريد ان انقل للقاريء العربي بعض المشاهد التي تعكس إلي حد كبير الانطباعات التي تولدت لدي من هذه الرحلة السريعة, التي كان القصد منها المشاركة في اللقاء السنوي بين الاتحاد البرلماني الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة موفدا من رئيس مجلس الشعب المصري,حيث كان موضوع المناقشة هذا العام يدور حول نزع السلاح الأمر الذي جعلني أركز في كلمتي مع بداية الجلسة الأولي للقاء المشترك بين البرلمانيين والدبلوماسيين علي طبيعة الوضع المتدهور في الشرق الأوسط.
مشيرا إلي حجم مبيعات السلاح في المنطقة علي امتداد العقود الخمسة الأخيرة بينما الشرق الأوسط يحتاج إلي المدارس والمستشفيات وليس إلي الدبابات والطائرات, وذكرت ان نفقات التسليح العسكري في العالم كله تأتي علي حساب التنمية إذ ان كثيرا من الشعوب الفقيرة تقتطع من قوتها ما تشتري به معدات حربية وأسلحة عسكرية لحماية أمنها القومي الذي يتخذ أولوية لديها في ظل الصراعات الدامية والمواجهات الساخنة, وقد أيدني فيما قلت نائب رئيس البرلمان السوري وممثل البرلمان المغربي ورئيس الوفد البريطاني لأنه علي مايبدو أن من يأخذ ناصية الحديث مبكرا في المؤتمرات الدولية تكون له فرصة أفضل طوال المناقشات, والآن أعود مرة أخري إلي مشاهد أربعة بترتيب حدوثها.
المشهد الأول
عندما هبطت بي طائرة شركة لوفتهانزا في مطار جون فيتزاجيرالد كيندي قادما من فرانكفورت, حيث شاركت في أعمال معرض الكتاب الدولي الذي كان العالم العربي هو ضيف الشرف فيه هذا العام, فوجئت بصدمة لم أتوقعها, فبرغم أنني أحمل جواز سفر دبلوماسيا ـ كسفير سابق ـ وعليه تأشيرة دخول للولايات المتحدة الأمريكية لعدة سفرات صالحة لمدة خمس سنوات وبرغم أنني دخلت بذات التأشيرة في العام الماضي فإنني فوجئت بالسيدة المسئولة عن التعامل مع جوازات سفر القادمين إلي الولايات المتحدة الأمريكية تعاملني بجفاء واضح فور تصفحها جواز سفري ثم اقتادتني إلي حجرة جانبية مليئة بمن أظن أنهم مهاجرون من بعض دول شرق افريقيا ومنطقة الكاريبي وعندما تساءلت في دهشة عن سبب ما يحدث قال لي الضابط المسئول عليك ان تنتظر دورك حتي ننتهي من كل هؤلاء فأسقط في يدي وشعرت بإهانة لا مبرر لها وطلبت منه أن أري مسئولا أكبر حتي أعرف تفسيرا لما يحدث معي وبعد نصف ساعة جاءني مسئول يبدو انه المشرف علي مجموعة موظفي الجوازات واشهد بأنه كان رقيقا معي للغاية وبعد تعامل استمر لعدة دقائق مع أجهزة الكمبيوتر اعتذر لي الرجل مبررا ما حدث بتشابه في الأسماء ثم فوجئت بإعطائي إقامة لمدة ستة أشهر بينما كنت قد طلبت منهم ثلاثة أسابيع فقط, ولحظتها تذكرت ما يعانيه عشرات الآلاف من البشر في مطارات العالم كل يوم خصوصا من يحملون ملامح شرق أوسطية أو سحنة عربية.
المشهد الثاني
كنت اتجول في الشارع الخامس بمدينة نيويورك فرأيت متجرا كبيرا من عدة طوابق يبدو متخصصا في التحف القديمة فدخلته من قبيل الفضول والتسلية ثم فوجئت بان مالكيه مصريان أحدهما مسلم والثاني يهودي ترك مصر في نهاية عام1956. ولقد اكتشفت أن الشريكين يملكان هذا المحل معا منذ ثمانية وثلاثين عاما وادهشني كثيرا عمق الثقة المتبادلة ومتانة العلاقة بينهما, فالمصري اليهودي مازال يعشق مصر إلي حد الهوس ويأتي لزيارتها بين حين وآخر ويتولي إدارة المتجر في غياب شريكه لأداء فريضة الحج أو السفر للعمرة, ولقد ذكرا لي أنهما يتناقشان في السياسة طوال اليوم وينتقدان التطرف علي الجانبين ولكن لا يستغني احدهما عن الآخر, كما شعرت بأجواء المحبة والود بين كل العاملين مع اختلاف دياناتهم وآمنت لحظتها عن يقين بأن مصر كانت دائما هي مصدر التسامح وملتقي الديانات ورافضة التعصب يتعلق بها أبناؤها أينما يذهبوا وتغلب وطنيتهم علي غيرهم لأنهم يؤمنون بأن الدين لله والوطن للجميع, إنها تجربة للتعايش الإنساني تستحق التأمل وتستدعي الاهتمام وتدفع نحو أمل البشرية في استقرار عادل يجمع ولا يفرق, يوحد ولا يشتت.
المشهد الثالث
حضرت إفطارا رمضانيا ضخما بأحد مساجد منطقة جيرسي بترتيب من القنصل العام المصري ومساعده ولقد حضر الإفطار عدد ضخم من رجال وسيدات الجالية الإسلامية الأمريكية كما حضره عدد من رجال الدين المسيحي ورجال الدين اليهودي فضلا عن بعض اعضاء الكونجرس بمجلسيه ممن يمثلون تلك المنطقة وعدد من القضاة الأمريكيين ومسئولي الإدارة ورجال الأعمال, ولقد ألقيت كلمة في ذلك الحشد الضخم حول التسامح الديني والصلات الروحية والحضارية بين اتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث ولقد شد انتباهي شيوع روح واضحة من الألفة الشديدة والصداقة القوية التي تربط الجميع ورأيت كيف أن المساجد مفتوحة علي مصراعيها في رمضان وأضواؤها تسطع وهي تحتوي مئات المسلمين الذين يؤدون صلاة التراويح كل ليلة, لذلك فإنني أري ان المواجهة الحقيقية ليست بين الإسلام والغرب ولكنها بين الاعتدال والتطرف, بين التسامح والتعصب, بين الانفتاح والانغلاق بغض النظر عن الديانات والأعراق والقوميات.
المشهد الرابع
التقيت الأسقف ديفيد كبير رجال الكنيسة القبطية في نيويورك وربما في أمريكا الشمالية كلها وذلك في أثناء الإفطار الرمضاني الذي اشرت اليه في المشهد السابق, وكان مشغولا بالإعداد لإفطار الوحدة الوطنية وهي مبادرة بدأها قداسة البابا شنودة في كل الكنائس القبطية في الداخل والخارج منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي, ولقد دعاني الأسقف ديفيد لزيارة المقر البابوي القبطي في نيويورك وهي مجموعة مبان رائعة علي ربوة عالية تضم كنيسة وناديا ومكتبة ولقد كانت حفاوة الأشقاء الأقباط بنا كبيرة كما كان كرمهم زائدا وشعرت بروح الوحدة الوطنية تطل من عيونهم وتبدو من كلماتهم وتتأكد من تصرفاتهم حيث الوطن المشترك يبدو في الغربة وكأنه هاجس يستقر في الوجدان وشعور يتعمق في النفوس, بل إنني سمعت عن جمعية إسلامية قبطية في نيويورك تملك إمكانات مالية كبيرة وصلاحيات واسعة لتعزيز الشعور الوطني والدفاع عن القضايا العادلة لأمتنا العربية وشعبها المصري.
.. هذه مشاهد سريعة اهدف من ذكرها الي نقل صورة حية لما رأيت في تلك الرحلة التي خرجت منها باستنتاجات واضحة في ظل ضجيج الانتخابات الرئاسية الأمريكية حيث رأي كثير من الأمريكيين ان المرشح الديمقراطي جون كيري كانت لديه الفرصة لولا انه لم يتمكن من مخاطبة الشعب الأمريكي بالطريقة التي يريدها في هذه الظروف التي تواصل فيها واشنطن حربها علي الإرهاب ويستمر تورطها في العراق ويعدم دورها في فلسطين ولقد كان الأمريكيون يقولون صراحة إن جون كيري محدث أفضل ولكنهم سوف يصوتون للرئيس جورج دبليو بوش حتي يستكمل المهمة التي بدأها وينتزع المخاوف التي زرعها, كما كانوا يرددون ان الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة إلي استمرار رئيس قوي حتي ولو كان علي خطأ كما أن كيري من ناحيته لم يتفهم جيدا أن المجتمع الأمريكي مجتمع متدين وأن قيم الأسرة تشكل فيه ركنا مهما, ولقد رفع كثير من الأمريكيين ـ في معرض التعليق علي زواج المثليين ـ شعارا يقول( إن الله خلق الإنسانية من آدم وايف ولم يخلقها من آدم وستيف)! ولا شك أن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش قد ضرب علي أوتار معينة في القيم الأمريكية واعتمد علي رؤيته الدينية فضلا عن المخاوف التي زرعها في أعماق المواطن الأمريكي التي تفضل علينا بن لادن بتأكيدها من خلال شريطه قبيل الانتخابات الذي تحدث فيه عن حادث11 سبتمبر2001 ودور تنظيم القاعدة فيه.
** إن الولايات المتحدة الأمريكية في ظني قد بدأت تتعافي ولو ببطء من محنة قاسية, وتستعيد ثقتها في غيرها وإن كان الطريق لايزال طويلا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/11/23/WRIT1.HTM