قد يحتدم الخلاف السياسي بين أبناء الوطن الواحد وتختلف التوجهات الحزبية حول القضايا التي تهم الشعب ومستقبل أجياله القادمة ولكن المهم دائما ـ قبل ذلك كله ـ أن يكون الخلاف, مهما اتسعت هوته وزادت حدته, واقفا علي أرض وطنية ورابضا علي ثوابت لاينبغي التفريط فيها أو التنازل عنها, أقول ذلك وعيني علي مصر ـ الوطن والشعب ـ فقد لاحظت في السنوات الأخيرة أن الشعور بالانتماء لدي قطاع من الشباب يبدو سطحيا أحيانا وهامشيا أحيانا أخري.
مع أننا لو استعرضنا تاريخ الحياة السياسية المصرية لوجدناه مطابقا لتاريخ الحركة الوطنية, فحزب الوفد مثلا في الفترة الليبرالية بين الثورتين1919 ـ1952 لم يكن يجسد فقط شعارات الوحدة الوطنية والسعي نحو الاستقلال التام واحترام دستور1923 ولكنه كان يتجاوز ذلك لكي يكون وعاء كاملا للحركة الوطنية بكل أطيافها حتي جري تلقيبه بالثوب الفضفاض الذي يحتوي تيارات متعددة تحت مظلة المصلحة العليا للوطن, ونحن مستعدون الآن لقبول الحوار الحر والرأي المخالف بل وأيضا الشطحات الفكرية والمبادرات السياسية بشرط أن نكون جميعا فوق أرضية واحدة نقف عليها ولانحيد عنها وأعني بها الأرضية الوطنية, ولعلي هنا أفرد بوضوح ما أوجزته في السطور السابقة من خلال الملاحظات التالية:ـ
أولا:ـ إن ظهور فكر العولمة والتقدم المذهل في تكنولوجيا المعلومات والسرعة الهائلة في وسائل الاتصال قد أفرزت في مجملها ذلك النوع الجديد من المواطن الذي قد لايتمسك بالثوابت ولكن يمضي وراء مجتمع إنساني واسع سقطت فيه الحواجز وتلاشت منه الحدود خصوصا أنه مع انهيار مبدأ السيادة المطلقة للدولة فإن المشاعر الوطنية يمكن أن تكون قد اهتزت لدي بعض الأجيال الجديدة بحكم الانبهار بنمط الحياة في مجتمعات أخري أكثر تقدما.
ثانيا:ـ إن التداخل بين السلطة والثروة قد أدي إلي حالة من الميوعة الوطنية والأخلاقية أيضا, فالسلطة ترتبط بهيبة الدولة, أما الثروة فلا وطن لها لأنها تسعي بامتداداتها وتنساب بأموالها وتتحرك وفقا لمصالحها دون اعتبار ـ في الغالب ـ للمشاعر الوطنية أو المواقف القومية, وقد تدفع أصحابها أحيانا إلي الوقوف علي أي أرضية لأن المصالح الفردية تطغي والأهداف الذاتية تسيطر.
ثالثا:ـ إن الحس الوطني يرتبط بالاهتمام بالعمل العام والرغبة في خدمة المجتمع وهي مظاهر بدأت تتراجع في السنوات الأخيرة بفعل انحسار الأحلام القومية وتوالي الهزائم السياسية والعسكرية وتبدل الخريطة الدولية بين الأصدقاء والأعداء فضلا عن الفوضي في الأوضاع الإقليمية والإحباط الذي أصاب الأغلبية الساحقة من شباب هذا العصر.
رابعا:ـ إن غياب الرؤية السياسية الواضحة تعني اختفاء النوتة الموسيقية التي تحرك عازفي الأوركسترا في توافق بين النغمات وانسجام بين الآلات وإلا أصبح اللحن نشازا لايعبر عن هوية متميزة أو شخصية مشتركة أو قيمة يمكن الالتفاف حولها والإيمان بها والدفاع عنها, وما كان يسميه أستاذ العلوم السياسية الراحل د. حامد ربيع ـ الذي كان في حد ذاته موسوعة متنقلة في الفقه السياسي الغربي والإسلامي معا علي نحو منقطع النظير ـ بالدولة الكفاحية كان يعني بها تلك التي تملك مشروعا وطنيا جري حوله توافق عام وسعي مشترك ورغبة طوعية من كل القوي السياسية والاجتماعية.
خامسا: ـ لقد أدي شحوب الدور الوطني ونقص المشاركة السياسية إلي نوع من اللامبالاة وضعف الانتماء الذي أدي بدوره إلي تراجع الولاء ولعلي أكون منصفا هنا فأقول إن ذلك جزء من ظاهرة عالمية لايمكن تجاهلها أو إغفال تأثيرها, فالأجيال الجديدة لاتحمل علي كواهلها ما حملته أجيال سابقة من مطلب الحرية ومسعي الكرامة والنضال من أجل غايات تطلعت إليها شعوب كثيرة في القرن الماضي.
.. وإذا انتقلنا ـ قياسا علي ذلك ـ إلي تطبيق تلك الأفكار العامة علي مصر فإننا نقول إن العصور البارزة في التاريخ الحديث بدأت من العهد الملكي ثم عهود عبدالناصر و السادات ومبارك علي اعتبار أن فترة حكم محمد نجيب هي فترة قصيرة وفاصلة بين عهدين ولم يكن فيها ذلك الجنرال الطيب القلب صبور الشخصية مطلق اليد أو حر الإرادة, وسوف نكتشف أن حكام مصر كانوا يقفون دائما علي أرضية وطنية, فالأسرة العلوية التي بدأت بمحمد علي وانتهت بفاروق لم تعرف نموذجا صارخا للخروج علي الوطنية المصرية باستثناء الخديو توفيق أما فاروق نفسه والذي قامت ثورة1952 للإطاحة به فقد كان ملكا فاسدا ولكنه لم يكن حاكما خائنا فكراهيته للاحتلال البريطاني معروفة وارتباطه بالوطن المصري كان مؤكدا, أما عبدالناصر فمثلة مثل أحمد عرابي ابن للعسكرية المصرية التي قدمت لهذا الوطن دائما أفضل ما لديها وأسهمت في الحركة الوطنية والدفاع عن الأمن القومي علي نحو نادر في تاريخ الشعوب, وعبدالناصر فوق هذا وقبله قامة قومية عالية وطراز وطني فريد قد تكون له أخطاؤه الكبري مثلما كانت له إنجازاته الكبري أيض,ا ولكنه وقف علي أرضية وطنية بل وقومية حتي النفس الأخير من حياته,
أما السادات الذي يعتبر رجل دولة من طراز فريد فإنه قد وقف دائما منذ مطلع حياته وصدر شبابه علي أرضية وطنية مصرية صلبة, يكفي أن يتذكر القاريء أن السادات كان عضوا في تنظيم الضباط الأحرار مع ارتباط بما سمي بمجموعة الحرس الحديدي الموالي للملك في نفس الوقت ولكن ولاءه كان بغير جدال مع الحركة الثورية في الجيش ولم يخن يوما وطنه ولا أمته, حتي رؤيته للعلاقة بين العرب وإسرائيل كانت اجتهادا سياسيا من زعيم يعرف المتغيرات الدولية والتطورات الإقليمية ويلعب ببراعة عليهما, وعندما جاء مبارك إلي السلطة فقد كان وراءه رصيد طويل من التاريخ العسكري المشرف فقد بدأ السلم من بدايته ووصل إلي نهايته مشاركا في كل حروب مصر في النصف الثاني من القرن العشرين فضلا عن دوره الفريد في حرب أكتوبر1973 وتربيته المباشرة للكوادر الباسلة من ضباط القوات الجوية المصرية ولقد عملت شخصيا علي مقربة منه قرابة ثماني سنوات ورأيته يضع يده علي الخيار الوطني في كل المواقف وينحاز للمصلحة العليا لمصر بغير تردد, فذلك كله جيل رفيع القدر واضح الغاية من أبناء مصر الذين وقفوا دئما علي أرضية وطنية أمام كل التحديات وفي جميع الظروف, ومصر الإصلاح والتنوير بعد الثورة والتحرير تتطلع إلي كل ابنائها من ألاجيال الجديدة لكي يواصلوا الطريق ويحملوا الشعلة موقنة أن انتماءهم لمصر الوطن والأرض والشعب سوف يعلو علي سواه, وأن جذور الوطنية المصرية سوف تمتد فيهم برغم الظروف الدولية المختلفة والأحوال الإقليمية المضطربة والفوضي السياسية التي تسود عالم اليوم, ولاشك أنهم سوف يكونون علي وعي كامل بآلام الكادحين ومعاناة الفقراء ودراية صادقة بآمال الشعب ـ كل الشعب ـ وأحلامه وأمانيه لأنهم سوف يقفون بالضرورة علي أرضية مصرية وعربية لاتنال منهم تيارات وافدة أو مواقف عارضة أو حسابات متشابكة أو أهواء شخصية أو مصالح فردية, فمصر دائما أمة منجبة قدمت للمنطقة تنوير الطهطاوي ومحمد عبده وجهاد عرابي ومصطفي كامل ووطنية سعد زغلول و مصطفي النحاس ونضال عبدالناصر والسادات ومبارك وسوف يمتد الطريق وتتواصل سلسلة الزعامات المصرية الوطنية التي لايرضي الشعب عنها بديلا ولن يعرف غيرها أبدا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/10/12/WRIT1.HTM