إن مسيرة الحياة ودورة الزمن لا تتوقفان, ولكل مرحلة من مراحل العمر مزاج معين ومذاق خاص, ويظل المرء يحتفل بأعياد ميلاده ولكنه يبدأ في التردد عندما يأتي الي ما يمكن تسميته بنقلة عداد الزمن مع كل عقد جديد من عمره, فالذي يبلغ التاسعة والخمسين يظل منتميا الي من يعيشون في الخمسينات من أعمارهم, أما عندما يزحف نحو الستين فإنه يدخل في فئة عمرية جديدة ذات خصائص متميزة فالعام الستون من حياة البشر هو علامة فارقة ونقطة مفصلية خصوصا في بلادنا لأنه السن الرسمية للتقاعد وبداية مرحلة مختلفة من الحياة طالت أو قصرت.
وعندما يقترب الانسان من عيد ميلاده الستين فإنه يراجع ماضي أيامه وسنوات عمره ويتأمل الانجازات والاخفاقات ويكتشف أن النجاح والفشل والصواب والخطأ كلها جزء لا يتجزأ من وحدة العمر المتكاملة بل إنه يتأكد أيضا أن تعادلية توفيق الحكيم هي أقرب التفسيرات الي الدقة عند تحليل مسار حياة الانسان الفرد وكأنما لكل منا مقدار ثابت من النقاط يجوزها في حياته ولكن تقسيمها الداخلي هو الذي يختلف من فرد الي آخر قد تكون مالا أو سلطة, جاها أو ولدا, صحة أوعلما وقد لا تكون شيئا من ذلك كله ولكنها شعور مفرط بالسعادة لدي بعض الناس يحتل حياتهم دون سبب ظاهر ولكنه تعويض الهي عن معاناة خفية تريد بها السماء أن تسعد المعذبين في الارض, ونحن هنا لا نحلق في آفاق الفلسفة ولا نغوص في أعماق الغيبيات ولكننا نشير إلي صراع مكتوب بين الأجيال في بلادنا إذ أن طبيعة الاوضاع فيها وتركيبة النظام الاجتماعي والاداري في العقود الأخيرة قد أحدثت فجوة كبيرة بين الشرائح العمرية المختلفة فضلا عن استئثار جيل واحد أو جيلين علي الأكثر بمقدرات أجيال تالية, وهي مشكلة لا ننفرد بها ولكن تشترك معنا فيها مجتمعات كثيرة في عالمنا المعاصر ورغم أنني أعترف أن الارتفاع النسبي في مستويات الرعاية الصحية قد جعلت الذين يبلغون السبعين الآن في حيوية من كانوا في الستين منذ عقود قليلة حتي أن معظم دول العالم راجعت سن التقاعد وارتفعت به الي ما يصل الي السنوات العشر في كثير منها ولكن ذلك كله لا ينفي أن الدلالات الرقمية للعمر هي في النهاية ذات تأثير واحد, ولعلي أضع هنا عددا من الملاحظات الجديرة بالعناية:ـ
أولا: إن المشكلة السكانية بما أفرزته من غياب التوازن بين الموارد المتاحة والحاجات المطلوبة قد أحدثت خللا كبيرا في العلاقة بين الكم والكيف وأثرت تأثيرا واضحا علي نوعية الحياة بشكل عام خصوصا في قطاعي تطوير التعليم والرعاية الصحية.
ثانيا: إن طموحات الناس قد تزايدت بشكل ملحوظ بحيث أصبح اللهاث وراء مقتنيات التكنولوجيا الحديثة ووسائل الرفاهية في الحياة أمرا أدي إلي انتقال مئات السلع من لائحة الكماليات إلي جدول الضروريات بل إن جيلي وحده قد عايش الراديو بالبطارية السائلة ثم بالبطارية الجافة, ثم عصر الترانزستور فالتليفزيون الأبيض والأسود, والتليفزيون الملون و, والفيديو, ثم عصر الأطباق الفضائية والمحطات بأعداد غير محدودة فضلا عن ثورة الكمبيوتر وعالم الإنترنت, ناهيك عن الهاتف المحمول وآثارة الاقتصادية والاجتماعية.
ثالثا: إن طغيان الأعداد العائلة من المستويات العمرية الصغيرة قضية تستحق الدراسة فثلثا الشعب المصري لم ير عبد الناصر والسادات بل إن معظمهم قد ولد بعد هزيمة يونيو1967 وربما نصر أكتوبر1973 أيضا, وهو ما يعني أن السواد الاعظم من المصريين ينظرون الي تلك العصور السابقة نفس نظرتهم إلي عصر محمد علي أو الخديو إسماعيل.. نظرة من بعيد تعتمد علي ما كتب عنهم ولا تملك صدقية المعاصرة وموضوعية الأحكام.
رابعا: إن الحروب التي شهدتها المنطقة وموجات العنف المتتالية والمد الديني المتطرف فضلا عن مشكلات الحياة اليومية وضبابية صورة المستقبل قد أثرت في مجملها علي حياة البشر وجعلت الجهامة والعبوس والإحباط واليأس سمات عامة لم تكن معروفة بهذا الحجم من قبل, كما أن درجة الانفتاح الاجتماعي قد بدأت تنخفض ومساحة الحرية الشخصية تتجه إلي الزوال بحكم اجهزة الرصد وأدوات التنصت علي نحو جعل للحياة الأسرية والمجتمعية مذاقا مختلفا.
خامسا: إن الديكتاتورية والاستبداد ابنان شرعيان لظاهرة الأعداد الكبيرة ونظرية الزحام هي التي تحيل صاحب القرار علي كل المستويات الي ما يشبه من يقود القطيع, فالحوار يصبح من طرف واحد وإذا ما سمحت الظروف أن يكون من طرفين فإن لأحداهما أن يقول ما يريد وللثاني أن يفعل ما يريد.
سادسا: إن حالة السكون التي تميزت بها العقود الأخيرة قد خلقت نوعا من تمرد الناس علي الحقيقة واستسلامهم للواقع ودخول نسبة كبيرة منهم في غيبوبة سياسة واضطراب أخلاقي انعكس علي ضعف المشاركة في الحياة العامة واختفاء الليبرالية الاجتماعية وشيوع التزمت والتشدد في كثير من القطاعات بل إن نوعية الجرائم الجديدة تعكس هي الأخري التحولات النفسية في تكوين المواطن, فالمخدرات شائعة والإدمان خطر يتهدد الشباب بينما النزوح عن العصر كله يمثل توجها آخر نحو أصولية مبهمة تدفع بالأجيال الجديدة نحو متاهات لا نهاية لها.
سابعا: ان التعليم في المدي الطويل والاعلام في المدي القصير قد أثرا تأثيرات سلبية في تكوين الشخصية المصرية الجديدة وسحبا منها جزءا كبيرا من الرصانة بل والمصداقية وحتي الشفافية وهو ما يستوجب مراجعة شاملة لجوانب حياتنا خصوصا في هذين القطاعين المؤثرين ـ سلبا وإيجابا ـ في تشكيل صورة المستقبل برمته.
.. هذه خواطر أحد الزاحفين نحو الستين ممن تتأرجح مشاعرهم بين الرضا الكامل والاحباط الشديد, يندم بعضهم علي الفرص الضائعة ويردد بعضهم الأخطاء الشائعة ولكنهم يدركون أنهم يقفون علي حافة الخريف حيث تتساقط الأوراق اليانعة وتهوي النجوم اللامعة وقد لا يبقي علي الاوتاد في النهاية إلا شر البقر, فالجياد الاصيلة تنأي بنفسها عن حلبة الصراع وترتفع بذاتها عن ساحة المنافسة مؤمنة أن لكل عصر رموزه ولكل أوان أذانه ثم تبقي في النهاية الارض الطيبة التي تقدم أفضل ما لديها حيث يجري النيل بغير توقف وتثرثر أجيال بغير وعي عن سابقيها وتنتقد بغير حق لاحقيها, دورة زمان وحركة كون ومسار حياة.. إنها خواطر جيل لم يكن يتوقع أن يري البشر يذبحون كالخراف وأن يشهد اختطاف الرهائن الابرياء الذين يدفعون فاتورة العصر بينما ينعم الأوغاد الآثمون والمجرمون الحقيقيون بطيبات الحياة ونعيم الدنيا, كما لم نكن نتصور أن نري في عصرنا السطو المباشر علي مقدرات الشعوب وآمالها والمصادرة الكاملة لأحلامها وتطلعاتها, إنه ذلك الجيل الذي يدور حول الستين وقد تفتحت مداركه علي انتصارات وأحلام وانتهت بنكسات وأوهام, جيل عاش صراعات الحكم ومحنة الاحتلال الأجنبي وعربدة إسرائيل في المنطقة بمخطط يبدو الآن أكبر بكثير من خيال اشد العرب تشاؤما منذ عدة عقود, إنه جيل لم تمكنه الظروف من أن يقدم أفضل ما لديه ولكنه قدم فقط أقصي ما استطاع والفارق بينهما يكمن في نوعية الفرصة وإمكانية الاختيار وطبيعة الظروف, إن الزحف نحو الستين يبدو كوقفة التأمل التي يراجع فيها البشر المسيرة كلها طلبا لسنوات آمنة إذا كان في العمر بقية وحصادا لكل جهد العمر.. معرفة وفكرا وثقافة, وإذا كانت سن الستين تبدو بداية لحياة مريحة في المجتمعات الراقية فإنها قد تعني تضاؤل القيمة وتراجع المكانة في المجتمعات المتخلفة, ونحن نعلم في أعماقنا إلي أي المجتمعات ننتمي, فليعش المرء سنوات عمره بحلوها ومرها, ويتكيف مع مراحله بخيرها وشرها, فالإنسان لم يحدد عمره, ولم يكتب مستقبله, ولكنه عاش معركة الحياة كي يواجه الأعاصير ويقف أمام الأنواء ويصبر علي خبطات الزمن وتصاريف القدر وتقلبات الدنيا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/9/28/WRIT1.HTM