تبني كاتب أمريكي يهودي اتجاها جديدا في تفسير الظاهرة الديمقراطية, وأوضح ـ ربما لأول مرة في تاريخ النظرية السياسية ـ الفارق بين الديمقراطية باعتبارها حكم الأغلبية وبين الديمقراطية باعتبارها تجسيدا لدولة القانون, ولقد كان الذي لفت نظري إلي ذلك المفكر وكتابه هو اللورد كاري رئيس أساقفة الكنيسة الإنجليزية سابقا والذي زار القاهرة أخيرا حيث انتحي بي جانبا بعد عشاء موسع في منزل السفير البريطاني ليناقش معي ذلك الطرح الجديد الذي سوف يكون له ـ بغير شك ـ تأثيره الكبير علي الأقليات المختلفة في ظل الديمقراطيات المعاصرة إلي جانب القدرة علي مواجهة الإشكالية الناجمة عن الاختلاف بين مفهومي المساواة القانونية والمساواة السياسية.
وبداية فإنني أعتبر أسقف كانتبري السابق شخصية مستنيرة متوازنة حتي إنه عندما أسيء فهم محاضرة له من جانب بعض الدوائر الإسلامية منذ سنوات قليلة, فإنه بادر بالاعتذار, موضحا ومصححا في مناسبات عديدة كان آخرها محاضرته القيمة في القاهرة والتي استمع إليها كبار رجال الدين الإسلامي والمسيحي وعدد من رجالات الدولة والشخصيات العامة, ولقد ذكر اللورد كاري أن مناقشة الاختلاف بين تصورين مختلفين للديمقراطية المعاصرة من شأنه أن يفتح آفاقا رحبة أمام مستقبل الحياة السياسية في كثير من الدول, لذلك قد يكون من المفيد مناقشة هذه المسألة برمتها من خلال الملاحظات التالية:ـ
أولا:ـ إن التناقض بين منطوق المساواة القانونية ومفهوم المساواة السياسية أمر يؤرق الأقليات عموما ويجعل الديمقراطية ظاهرة سياسية ألزمها حقيقة قانونية فالأقليات العددية في العالم تشكو مما يمكن تسميته بديكتاتورية الأغلبية فلم يصل يهودي إلي رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية كما أن ما يزيد علي مائة مليون مسلم في الهند لم تشفع لهم نسبتهم السكانية لكي يقدموا رئيسا للوزراء في ذلك البلد الذي ينص دستوره علي الربط بين العلمانية والديمقراطية, بل إن المهاتما غاندي حاول دفع مولانا أبو الكلام أزاد لمنصب رئيس الوزراء وسط شعور هندي عام بالوحدة الوطنية إلا أنه أخفق في ذلك ولم يتمكن المسلمون بملايينهم الذين يزيدون علي المائة من الوصول الي موقع رئاسة الحكومة باعتباره الوظيفة التنفيذية الأولي في البلاد في ظل نظام برلماني واقتصر وجودهم علي منصب رئاسة الجمهورية بطابعه المراسيمي واختصاصاته الشكلية.
ثانيا:ـ إن وصول رئيس وزراء في الهند من طائفة السيخ أخيرا التي لا تتجاوز نسبتها عشرة في المائة من مجموع سكان الدولة هو ظاهرة تستحق الالتفات إليها والحفاوة بها لأنها تعني أن الهند قد ضربت المثل في الاحتكام إلي المعيارين السياسي والقانوني دون اعتبار بالتقسيم الديني أو الطائفي, ولماذا نذهب بعيدا إن هناك دولا إفريقية في غرب القارة وشرقها تناوبت الرئاسة فيها بين المسلمين والمسيحيين مثلما حدث في السنغال( سنجور ـ ضيوف) وما حدث في تنزانيا( نيريري ـ عويني).
ثالثا:ـ إن مصر ما قبل1952 عرفت في الفترة الليبرالية شيئا واضحا من تغليب المساواة القانونية علي الأغلبية العددية فقد كان مكرم عبيد باشا القبطي يكتسح منافسه ياسين أحمد باشا نقيب الأشراف في الانتخابات البرلمانية عن دائرة قنا ذات الأغلبية المسلمة, وتلك شهادة لمصر سبقت بعشرات السنين ذلك التوجه الذي يطرحه المفكر اليهودي الأمريكي فيما ذهب إليه من التفرقة بين ما نقصده بالديمقراطية التي تجسد طغيان الأغلبية والمعني الآخر لها الذي يجعلها مجرد دولة القانون الذي تنصرف قواعده العامة والمجردة إلي المواطنين جميعا بغير تفرقة بسبب العقيدة الدينية أو الأصول العرقية أو السمات اللونية.
رابعا:ـ أذكر أنني ألقيت محاضرة منذ أكثر من عشر سنوات في دار روز اليوسف حول الأغلبية السياسية والمساواة القانونية وقلت خلالها صراحة إن المساواة القانونية ترتبط بقضية المواطنة ولا مساس بها ولا جدال فيها, أما المساواة السياسية فهي ترتبط بالأغلبية العددية وصناديق الاقتراع وضربت مثالا بهنري كيسنجر الذي لم تشفع له عبقريته السياسية وخبرته التفاوضية في أن يكون رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية لا لأنه فقط غير أمريكي المولد ولكن أيضا لأنه يهودي الديانة, وطالبت في محاضرتي حينذاك بتفهم العلاقة بين الأغلبية العددية والمساواة القانونية بروح التسامح المطلوب والقبول الوطني العام.
خامسا:ـ إن حديثي مع اللورد كاري أسقف كانتبري السابق كان يتركز حول الوضع في الشرق الأوسط والتوزيع الديني والعرقي في بعض دوله بدءا من ميثاق1943 ثم مقررات الطائف في لبنان وصولا الي التعددية العرقية والمذهبية في العراق وكيف أن حسم الجدل بين المدلول العددي والمعني القانوني هو الكفيل بتأكيد الاستقرار وتثبيت الأوضاع في تلك الدول, ومازلت أذكر أنني تلقيت رسالة واعية من صديق قبطي مرموق بعد محاضرة روز اليوسف يستغرب فيها من الصراحة التي انطلقت منها مفاهيم تلك المحاضرة والتي اعتبرها تكريسا للتفرقة بين ما يسمي بالسيطرة السياسية للأغلبية مع التسليم بالمساواة الكاملة من الناحية القانونية, ولقد كان ردي ـ ولايزال ـ هو أن تعريف الديمقراطية بمفهومها التقليدي يضع حاجزا أمام أوضاع الأقليات في مناطق مختلفة من العالم ويصادر علي حركتها.
** وسوف أظل أتذكر دائما تلك المشاعر الحبيسة التي كانت تراود سياسيا مرموقا في تاريخ مصر هو مكرم عبيد سكرتير عام حزب الأغلبية الوفد وهو يتطلع إلي رئاسة الوزارة المصرية ويري أن أسبابا دينية بحتة حالت دون ذلك وسبقه إلي المنصب أحمد ماهر والنقراشي رغم أن تاريخه في الحركة الوطنية قد يتفوق عليهما, بل إن الدكتور بطرس بطرس غالي ربما عاني هو الآخر من شيء مثل ذلك وهو يشغل موقع وزير الدولة للشئون الخارجية ولا يتقدم نحو منصب وزير الخارجية لأسباب لا تتصل بكفاءته العالية ومكانته الأكاديمية والدبلوماسية, لذلك وجدت نفسي متفهما لما يطرحه اللورد كاري مستوعبا في الوقت ذاته إشكالية التعارض بين المساواة السياسية التي تقوم علي التفسير الديمقراطي من خلال جوهر تأثير الأغلبية وبين المساواة القانونية القائمة علي كفالة الدساتير لها وضمان وجودها من خلال التكييف القانوني لمعني المواطنة,
ولاشك أن التوجه الجديد في الفقة الدستوري الذي يستجيب للمفهوم القانوني للديمقراطية ويغلبه علي المفهوم السياسي هو بمثابة فكر انقلابي في الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية وسوف يكون له مردوده الكبير علي التعامل بين الأغلبية السياسية والأقلية التي تستند إلي أرضية قانونية وضمانات دستورية, وهو أمر يثير مباشرة طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة ويتجه نحو الفصل بينهما في إطار مفهوم شامل للوحدة الوطنية يجعل نظرية البقاء للأصلح هي الفيصل في الخيارات السياسية دون أن يتم تلوين المناخ العام بأسباب التفرقة وعوامل الاختلاف,
وقد تقبل الأقلية العددية الحرمان من بعض المواقع السياسية بشرط أن تكون المساواة القانونية تعويضا كاملا لذلك وتأكيدا لمعناها المطلق وليس النسبي بين أبناء الوطن الواحد لذلك فإنني أري أن الترويج لطرح الكاتب الأمريكي اليهودي يمثل مصدرا للقلق الفكري ومادة للحوار السياسي وسببا للاختلاف القانوني تجاه واحدة من أخطر قضايا النظم السياسية وأكثر اشكالياتها تداخلا وتعقيدا وسوف نظل نتطلع إلي يوم يستقر فيه التوازن بين الأغلبية السياسية والمساواة القانونية بحيث تختفي مشاعر المرارة ويحل محلها إدراك عميق بقيمة الوطن وفهم صحيح لمعني المواطنة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/9/14/WRIT1.HTM