تتجه مصر نحو مرحلة من الإصلاح السياسي والدستوري قد تبلغ ذروتها في السنة المقبلة لأن عام2005 هو عام الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في وقت واحد تقريبا ومصر مهيأة الآن اكثر من أي وقت مضي ـ لأسباب سوف نشرحها ـ لإعمال بنود أجندة الإصلاح كما لم يحدث فيها من قبل, فالعصر الناصري تميز بصراعات داخلية ومراكز للقوي ومواجهات خارجية علي جبهات عديدة من أزمة الانفصال الي حرب اليمن وصولا الي نكسة1967.
كما أن رفاق الثورة قد انسحبوا تدريجيا من الساحة وظل محور ناصر عامر فاعلا الي أن دفع الرئيس الراحل عبدالناصر فاتورة غالية لتلك الصداقة التاريخية, أما العصر الساداتي فقد تميز بالسعي نحو التخلص من الاحتلال الإسرائيلي وتحرير سيناء ولم يخل هوالآخر في بداياته من صراعات القوي عندما تخلص الرئيس السادات من خصومه في مايو1971 مثلما تخلص محمد علي من المماليك في مذبحة القلعة مع فارق واضح هو أن السادات استخدام دهاءه المتراكم والظروف المواتية دون إراقة قطرة دم واحدة, ثم كانت زيارته الشهيرة للقدس بداية جدل قومي صاخب انتهي بمشهد درامي عندما دفع رئيس مصر حياته ثمنا لسياسته في يوم الاحتفال بانتصاره, وعندما وصل الرئيس مبارك الي رئاسة الدولة في ظل ظروف مأساوية معقدة داخليا وعربيا ودوليا فإنه حاول اجتياز معظم العقبات بالنفس الطويل والصبر الذي لاينفد وبدأ عهده بإصلاح البنية التحتية لجميع المرافق العامة تمهيدا لاصلاح اقتصادي طويل المدي ولم تكن لديه مشكلة احتلال أجنبي باستثناء منطقة طابا التي واصل بإصراره تحريرها بالتحكيم الدولي, كما لم يوجد لديه صراع علي السلطة فالعصر المباركي يتميز بدرجة من الاستقرار النسبي,
من هنا كان طبيعيا أن يكون ذلك العهد مرشحا اكثر من غيره للاصلاحات الكبري والتغيرات الايجابية والتحولات البناءة, وفي ظني ان عام2005 سوف يكون هو الامتحان النهائي لجهد اكثر من عقدين من الزمان لذلك نتطلع جميعا ـ رئيسا وشعبا واحزابا وحكومة ـ الي ان يكون العام المقبل نقطة تحول ضخمة في مسار العمل الوطني ونحن لانرفع بذلك سقف التوقعات او نزايد علي الواقع, إننا ندرك ان الاصلاح عملية تدريجية وليس نقلة نوعية مفاجئة, ومع ذلك فإن شفيعنا في الأمل وحماسنا للمستقبل يعتمدان علي الأسباب الآتية:
أولا: ان عملية الاصلاح سلسلة متصلة حاولتها مصر منذ ميلاد الدولة الحديثة ببدء حكم الأسرة العلوية بعد سنوات قليلة من حملة نابليون الفرنسية بحيث قام المؤسس الأول محمد علي وخلفاؤه من أمثال إبراهيم وإسماعيل وأحمد فؤاد بجهود نهضوية وإن كانت دوافعها غير وطنية بالضرورة أو ناقصة ايضا فإبراهيم باشا برغم قصر مدة حكمه هو الأب الشرعي لجيش مصر الحديث والخديو إسماعيل برغم إسرافه فإنه صاحب الطموح الشهير بجعل مصر قطعة من أوروبا وفؤاد بجهامته وعزلته عن الحركة الشعبية إلا أن عصره شهد طفرة في التعليم والمؤسسات الفكرية والثقافية وهيئات المجتمع المدني, ثم كانت ثورة يوليو ضد حكم فاروق الذي كان فاسدا ولم يكن خائنا ـ حيث حاولت تلك الثورة الوطنية اجراء تحول جذري في شكل الحياة المصرية وطبيعة العلاقات العربية وحققت انجازات واخفاقات في الوقت نفسه, ورغم ذلك كله تظل مصر هي رائدة التنوير في القرن التاسع عشر وقائدة التحرير في القرن العشرين, لذلك يصبح طبيعيا ان تمضي علي طريق الاصلاح الذي يقود المنطقة كلها في القرن الحادي والعشرين.
ثانيا: إن الظروف الدولية والإقليمية بدءا من فكر العولمة مرورا بصراع الحضارات وصولا الي الحرب علي الإرهاب تدعو في مجملها الي مسايرة جديدة للعصر ومعايشة حقيقية لظروفه لذلك فإن توسيع مساحة المشاركة السياسية وفتح أبواب الحريات وتأكيد الديمقراطية الحقيقية وصيانة حقوق الإنسان تبدو كلها أدوات لازمة ومفردات عصرية يصعب تجاهلها, ونحن لانعني بذلك ان الاصلاح سلعة يجري استيرادها تحت ضغوط دولية إذا أن مصر بالذات هي آخر دولة في المنطقة يمكن ان ينطبق عليها مثل هذا الاتهام بحكم تاريخها القديم والحديث وتراثها البعيد والقريب, إنما الذي نعنيه من هذه النقطة هو أن نؤكد أن التغيير سنة الحياة والتطور فلسفة الوجود ولايمكن لدولة ما أن تعيش في عزلة عما يجري في العالم بأسره.
ثالثا: إن دور مصر الريادي ومكانتها الإقليمية لا يتماشيان مع أي تراجع أو جمود فإذا كانت مصر قد قادت المنطقة بالتعليم والثقافة حينا وبجيشها القومي حينا آخر فإنها مدعوة الآن لأن تقود المنطقة بالنموذج الجديد للانفتاح السياسي والتوسع الديمقراطي, فقد تعودت مصر أن تقدم للعرب جديدا في كل عصر كما أن مسئولياتها القومية التي جعلتها قائدة في الحرب ورائدة في السلام هي التي تدعوها لأن تواصل رسالتها من أجل شعبها أولا وأمتها ثانيا.
رابعا: إن روشتة الاصلاح السياسي والدستوري في مصر ان جاز هذا التعبير ـ تحمل في مضمونها انفراجة مطلوبة في أسلوب قيام الاحزاب السياسية وممارسة اعمالها فضلا عن اجراء انتخابات برلمانية تكون بالضرورة قفزة ايجابية في الشفافية والنزاهة مقارنة بكل الانتخابات السابقة كما أن تجديد ولاية الرئيس سوف تكون مناسبة تاريخية لترشيد وعصرنة أسلوب تلك العملية علي نحو يعطي دفعة للنظام السياسي ويتماشي في ذات الوقت مع شعبية الرئيس ذاته.
خامسا: إن ارهاصات الاصلاح ومقدمات التغيير قد ارتبطت بالمؤتمر العام للحزب الوطني الحاكم ومؤتمراته السنوية, وقد قطعت مصر شوطا لابأس به في ذلك الاتجاه وبقي عليها ان تكمل الطريق في جسارة ومصداقية ولن يتحقق ذلك بغير تضافر جميع الجهود لأن الاصلاح في مصر لاينصرف الي الدولة وحدها ولكنه يتجه ايضا الي المجتمع ومؤسساته المدنية وهيئاته الثقافية والروافد التي تتشكل منها مجموعة القيم الحاكمة والتقاليد الراسخة, لذلك فإن تطوير التعليم العصري وتصدير الثقافة القومية وتوطين التكنولوجيا الحديثة في ظل إصلاح سياسي شامل واقتصادي متكامل هي كلها تباشير الحياة الحديثة علي أرض مصر ومقدمات الصحوة العقلية التي تؤدي الي القرار الصحيح في الوقت المناسب علي جميع الأصعدة وفي جميع الاتجاهات.
** هذه أسباب نستند إليها في ذلك التفاؤل الحذر الذي نشعر به تجاه العام الحاسم2005 والذي سوف يمثل علامة فارقة في مسيرة العمل الوطني من حيث المنهج والأسلوب والغايات, كما أنني أريد أن اقول هنا أن الاصلاحات السياسية والدستورية لاتبدو عصية أو صعبة علي بلد مثل مصر لأنه بلد غني بالكوادر طويل الخبرة عميق الجذور فهو لايبدأ من فراغ ولاينطلق من نقطة الصفر بل علي العكس فإن تراكم التجارب قد أعطي الشخصية المصرية مقومات تسمح لها بالانطلاق اذا توافرت الإرادة السياسية العليا وتغلبت مصالح الوطن علي الأهواء الذاتية والطموحات الفردية لأن مصر تستحق في مستقبلها ما هو أفضل مما حققته في حاضرها, فتلك لغة التقدم وذلك هو منطق الإصلاح,
ولست أشك في ان العام المقبل سوف يكون اضافة ايجابية لرصيد العمل الوطني وبداية حقيقية لتحديث الفكر السياسي المصري وتطوير آلياته وفتح آفاق جديدة امامه, ونحن اذ نقول ذلك كله فإننا لانستغرق في الاحلام ولانقدم طرحا مستحيلا ولكننا نقترب من غايات هذا الوطن واستحقاقات شعبه وهي كلها تبشر بإصلاح حقيقي وتحول ايجابي ورؤية شاملة تأخذ بيد الوطن من منظور متكامل في عصر يؤمن بتداول السلطة ودوران النخب السياسية وتغيير القيادات الحزبية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/8/31/WRIT1.HTM