كتبت مقالا منذ عدة أسابيع في مستهل شهر يوليو أتحدث فيه عن البصمات ـ الايجابية والسلبية ـ التي تركتها الثورة المصرية في حياتنا حتي أصبحت مصدرا رئيسيا لشرعية الحكم لدينا, وتساءلت في مقال تحت عنوان تقاليد يوليو عن توقيت الخروج من عباءة تلك التقاليد والدخول في عملية اصلاح مدروس ودللت علي ذلك بكتابي من نهج الثورة إلي فكر الاصلاح, وقد تلقيت رسالة مطولة موقعة من السيد منير محمد صلاح الدين ممثلا لمن سماهم المصريون الجدد
وقد جعل عنوانها تقاليد مصر أكثر واقعية واستمرارية, وقد استهل رسالته بقوله( إن يوليو لاتمثل لمصر أكثر من المدة التي حكمنا فيها أبطال ومناضلو يوليو والتي إنتهت بهزيمة يونيو المروعة في67 وهذه التقاليد لم ترتكن إلا لبرامج سابقة التجهيز تم إعدادها في أوروبا علي يد انجلز و ماركس في أواخر القرن التاسع عشر ولم تنبع من داخلنا نتيجة لاعتلاء السلطة من هم دون الثقافة العامة وحديثو العهد بالعلم والمعرفة وذلك في غياب دور المؤسسة الديمقراطية ومكتسباتها الاجتماعية والسياسية والثقافية التي أفرزتها ثورة1919 ومابعدها حتي أوائل خمسينيات القرن العشرين),
وواقع الأمر أن هذا التعليق يجافي الحقيقة فأنا وإن كنت من جيل يوليو إلا أنني لست من دراويش الناصرية بالمعني العفوي للعبارة فأنا أدرك أن عبدالناصر كان بحق قامة قومية عالية ولكنني أدرك في الوقت ذاته سلبيات ثورة يوليو وأخطاءها مثلما أدرك إيجابياتها وإنجازاتها كذلك فإنني ممن يرفضون مقولة إن تاريخ مصر الحرة المؤثرة قد بدأ يوم23 يوليو1952 بل إنني اعتقد أن فترة ماقبل الثورة حافلة هي الأخري بعناصر التقدم
كما أن الجزء الأكبر من تقاليدنا الفكرية والثقافية قد نشأ وازدهر في تلك الفترة بدءا من محمد علي مؤسس مصر الحديثة إلي الخديوي إسماعيل الذي سعي إلي تحديث مصر وصولا إلي الملك فؤاد الأول ـ الذي كان رغم جهامته وضعف شعبيته ـ راعيا لكثير من مظاهر النهضة بدءا من إنشاء الجامعة مرورا بالجمعية الملكية الجغرافية ونظيرتها التاريخية وغيرها من مؤسسات التنوير والجمعيات الأهلية التي عرفها المجتمع المصري خصوصا في الفترة الليبرالية مابين الثورتين1919 و1952,
كما أننا مازلنا نذكر بعض العناصر المستنيرة من أسرة محمد علي بدءا من عمر طوسون الذي كان شريكا في الحركة الوطنية مرورا بعباس حليم راعي الحركة العمالية وصولا إلي يوسف كمال صاحب الاهتمامات المعروفة بالفنون الجميلة, كما أن أميرات الأسرة العلوية قد وضعن جهودهن في خدمة العمل التطوعي خصوصا المبرات والمستشفيات ورغم ذلك كله تبقي23 يوليو علامة فارقة ومحورا مفصليا في تاريخ مصرالحديث,
وأنا لاأشارك صاحب الرسالة في أن ثورة يوليو ارتكنت إلي برامج سابقة التجهيز مشيرا بذلك إلي الفكر الماركسي بل إنني أري ـ ومعي جمهرة المؤرخين والمعنيين بالتاريخ السياسي لمصر الحديثة ـ أن ماجري في الأسبوع الأخير من يوليو عام1952 كان أقرب إلي الولايات المتحدة الأمريكية منه إلي غيرها ولولا نفور الكيمياء الشخصية بين القائد المصري الشاب جمال عبدالناصر والسياسي الأمريكي المخضرم جون فوستر دالاس لكانت مجريات الأمور قد اتخذت طريقا آخر وإتجهت في اتجاه مختلف,
أما مايشير إليه صاحب الرسالة من أن من اعتلوا مقاعد السلطة بعد1952 كانوا دون الثقافة العامة وحديثي العهد بالعلم والمعرفة فإنني أختلف معه في ذلك وأذكره بأن الجيش المصري الحديث منذ عصر محمد علي هو الذي قاد حركة التحرير والتنوير في نفس الوقت فقد كان من بين الضباط الأحرار مثقفون مرموقون يكفي أن أذكر منهم اسما مثل ثروت عكاشة كذلك فإن تعليم العسكريين في مصر في تلك الفترة كان منفتحا علي المعارف الغربية والمدارس العسكرية الأجنبية مع إجادة اللغة الإنجليزية
وأضيف إلي ذلك أن ثوار يوليو قد استعانوا بخبرات مدنية مرموقة من أمثال مصطفي خليل و عزيز صدقي و الجريتلي وغيرهم, وإن كنت اتفق مع كاتب الرسالة في حديثه عن غياب دور المؤسسة الديمقراطية بل وأضيف إلي ذلك مخاصمة بعض أساليب يوليو للشرعية الدستورية وخروجها علي سياق القانون الأمر الذي بلغت ذورة الرمز فيه محاولة الاعتداء علي الفقيه القانوني الكبير عبدالرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة بعد قيام الثورة بسنوات قليلة,
وينتقل صاحب الرسالة ليقول لقد توهم القوميون والعروبيون أننا نمتلك أقوي قوة ضاربة في الشرق الأوسط مع تصغير لقوة العدو باستخدام الميكرفونات المصنوعة في الغرب وبطريقة شعراء المدح والهجاء العربي تاركين التقدم والحداثة والديمقراطية والحرية والثراء القائم علي الانتاج وتحمل المسئولية وإعلاء المنتج الوطني كما وكيفا منتجين بدلا منه التخلف والارهاب والهزيمة والفقر والعداء للعلم والتقدم فقد تخلفنا نحن في مصر علي يد زعامات يوليو وبتنا ومعنا شعوب الشرق الأوسط أكثر الأمم تخلفا بشهادة تقارير التنمية المتتالية كل عام بعد أن كنا نحن المصريين أول من أعطي العالم الحضارة الإنسانية,
وهنا أجد نفسي مرة أخري في خلاف حاد مع صاحب الرسالة إذ لم يكن انتماء مصر العربي خيارا ترفيا ولكنه كان ولايزال حقيقة سياسية وثقافية وليس مجرد رداء نرتديه بعض الوقت ونخلعه حين نشاء ثم إن خيار ثوار يوليو عربيا كان محكوما بالخطر الاسرائيلي ومايمثله بالنسبة للمنطقة ككل, وأنا لاأزعم مرة أخري أن23 يوليو كانت تحولا مثاليا لمصر والعرب ولكنني أرفض التحامل عليها بالمنطق الذي ينتزعها من سياق الأحداث وطبيعة الظروف ويجري لها محاكمة غير عادلة خصوصا
وأننا ندرك جميعا خطاياها وأوزارها ونعترف بما لها وماعليها وقد كان يمكن ليوليو52 أن تقدم علي المستويين الفكري والتطبيقي ماهو أفضل بكثير مما حدث وهو ماأشرنا إليه في مقالنا موضوع التعليق, وتبقي مسألة الاستبدال الشرعية الثورية الشرعية الدستورية نقطة الضعف الرئيسية في الثورة المصرية فافتقاد الديمقراطية وأحادية التنظيم وفردية الحكم أمور يصعب الدفاع عنها وهي التي عانت منها مصر منذ ذلك الحين,
ثم يستطرد صاحب الرسالة في ختامها قائلا إن تحنيط قدماء المصريين للموتي حفاظا علي الميت عند دخوله العالم الآخر قمين باستمرارية العطاء حتي بعد الممات في الآخرة إلا أنهم في نفس الوقت أكملوا مشوار التقدم الحضاري ولم يحنطوا النصوص لتكبيل الأحياء ويصبح الحي ميتا لهذا لم ننتج نحن المصريين شيئا ذا قيمة مضافة إلي المجتمع الانساني, فالمصريون المحدثون مهمومون بما يحمله لنا المستقبل من تحديات وليس البكاء علي أطلال الماضي غير المضيء والمفلس في توجهاته,
وهنا لانختلف كثيرا مع صاحب الرسالة ونري أن الأسلوب الماضوي في التعامل مع الأشياء قد ربطنا بتاريخنا أكثر من دفعه لنا نحو مستقبلنا وأؤيده في أن قيمة الأمم ومكانة الشعوب إنما تتحدد بالقيمة المضافة إلي المجتمع الإنساني, أما أولئك الذين يقبلون أن يكونوا عالة علي الغير دون إسهام حضاري ملموس فإنني أري دورهم سلبيا لأنهم لايملكون من أمر غدهم شيئا والواقع أن تلك الاشكالية ليست وليدة23 يوليو بقدر ماهي نتاج لتراكم طويل من أحقاب متعددة وتراث ثقيل يحمله المصريون علي كواهلهم حتي الآن.
فإلي صاحب الرسالة أقول إننا نختلف معك في الكثير ولكن المهم أن لك منهجا في التفكير نتفهمه ونقدره, وسوف تبقي تقاليد يوليو محل جدل ومثار نقاش إلي أن يحسم المصريون أمرهم ويؤمنوا أن الأمة مصدر السلطات وأن الديمقراطية هي مصدر الشرعية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/8/17/WRIT1.HTM