منذ عدة أسابيع دعاني سفير ايرلندا بالقاهرة ـ الذي كانت تترأس بلاده الاتحاد الأوروبي ـ لكي أكون متحدثا علي غداء عمل في منزله أمام سفراء دول الاتحاد الخمس والعشرين بالقاهرة, ودار بيني وبينهم حوار ممتد حول الأوضاع الجارية في المنطقة والنزاع الاسرائيلي.. الفلسطيني وتطورات الوضع في العراق, بالاضافة إلي قضية الاصلاح فيما يسمي بالشرق الأوسط الكبير
ولقد أجبت عن أسئلتهم بكل موضوعية وشفافية وخرجت بانطباع ايجابي للغاية عن الفهم الأوروبي لمشكلاتنا وإدراكهم لظروف المنطقة والمخاطر المحيطة بها والتحديات التي تواجهها, كما استقر لدي إحساس بأن الأوروبيين عموما ـ وبدرجات متفاوتة ـ ليسوا بعيدين عن واقعنا لأنهم جغرافيا وتاريخيا قريبون منا, والاقتراب هو الذي يؤدي إلي المعرفة الصحيحة والتذوق الحضاري المتبادل والإحساس بما يمكن أن يتعرض له طرف في مرحلة تاريخية معينة أو ظرف سياسي بذاته, ولقد كان ذلك اللقاء في منزل السفير الأيرلندي الذي حققت بلاده طفرة هائلة في التصدير بالاعتماد علي ركائز جديدة في مقدمتها صناعة الدواء والبرمجيات حتي أصبحت تلك الجزيرة الصغيرة في شمال غرب القارة الأوروبية واحدة من مراكز التقدم السريع مع علاقة متوازنة بدول القارة يعادلها علي الجانب الآخر خصوصية في العلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية حتي إن الايرلنديين يفاخرون بالنسبة العالية من الرؤساء الامريكيين المنحدرين من أصول ايرلندية, ولقد سعدت في عام2003 بلقاء مطول مع وزير خارجية أيرلندا أثناء زيارتي لمدينة دبلن وراعني يومها فهمه الكامل لطبيعة الصراع العربي ـ الاسرائيلي كما أن حديثه لم يكن
يخلو من تعاطف مع الشعب الفلسطيني ولاعجب فقد عاني الايرلنديون في تاريخهم طويلا, وعندما تحدثت أمام المعهد الأوروبي أثناء تلك الزيارة لأيرلندا عرفت عن تلك المجاعة الشهيرة التي تعرضت لها في منتصف القرن التاسع عشر عندما أصيب محصول البطاطس ومات الآلاف جوعا وهاجر الملايين عبر المحيط إلي العالم الجديد فاستقرت جالياتهم في الولايات المتحدة الامريكية وغيرها من دول الامريكتين, لذلك فإن الاصول الايرلندية كانت ولاتزال مؤثرة في الحياة السياسية الامريكية, ونعود مرة أخري إلي علاقات الأوروبيين بنا ودرجة وعيهم بمشكلاتنا بحثا عن مظاهر الاقتراب وأسباب المعرفة ونوجزها في النقاط التالية:ـ
أولا: إن الجغرافيا قد ربطت الشرق الأوسط بأوروبا ارتباطا وثيقا للغاية, فالمسافة بيننا في مصر وبين اليونان لاتزيد علي الساعتين ومع ايطاليا تقل عن ثلاث ساعات ولاتزيد علي ذلك مع النمسا, ولاتتجاوز أربع ساعات مع فرنسا والمانيا وتزيد قليلا للوصول إلي المملكة المتحدة, فإذا كانت المسافة بين الساحل الشرقي والساحل الغربي في الولايات المتحدة الامريكية هي ست ساعات طيران او مايزيد فإننا ندرك كم جعلتنا الجغرافيا قريبين من أوروبا خصوصا تلك التي تطل علي البحر المتوسط.
ثانيا: إن التواصل الحضاري تاريخيا بيننا وبين أوروبا خلال المعابر المعروفة من صقلية إلي مالطا مرورا بالوجود العربي الذي امتد إلي عدة قرون في اسبانيا وصولا إلي حروب الفرنجة ـ المسماة ظلما بالحروب الصليبية ـ والتي تعد هي الأخري نوعا من التواصل البشري برغم أنها كانت مواجهة عسكرية وحروبا طويلة حول بيت المقدس, كما أن البحر الأبيض المتوسط كان هو بحق بحيرة الحضارات بدءا من الحضارة الفرعونية الملهمة والمعلمة مرورا بحضارات الإغريق والرومان وصولا إلي عصر النهضة الأوروبية التي تزودت بعلوم العرب في عصر ازدهارهم حتي أصبحت حضارات البحر المتوسط ميراثا مشتركا لثقافات امتزجت وهويات تداخلت وعقليات انصهرت.
ثالثا: إن حركة الاستشراق تمثل درجة الشغف الأوروبي بحضارات الشرق وفي مقدمتها الحضارة العربية الاسلامية فلقد سعي المستشرقون إلي فهم شخصية الشرق وأساليب حياة شعوبه وعادات مجتمعاته وحظي الإسلام بدرجة كبيرة من ذلك الاهتمام الذي انعكس في كتاباتهم التي اتسم بعضها بالموضوعية والحياد واتصف بعضها الآخر بالظلم والتحامل.
رابعا: إن عناية الأوروبيين بالعلماء الموسوعيين العرب المسلمين من أمثال ابن رشد و ابن سينا و الفارابي و ابو بكر الرازي وغيرهم هي عناية تفوق التصور, ولقد دعاني زميل دراستي الدكتور أحمد زويل لحضور محاضرة له في جامعة برلين أثناء وجودي بالعاصمة الالمانية في صيف عام2003 وكان موضوع محاضرته عن ابن الهيثم وأدهشني كثيرا تلك المعرفة العميقة لذلك الحشد من العلماء الألمان والاجانب الذين يعلمون عن ذلك العالم العربي الكبير أكثر عشرات المرات مما نعرف نحن عنه.
خامسا: إن الظاهرة الاستعمارية بكل شرورها قد فتحت شهية أوروبا علي منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا, ودفعت بالرواد منهم نحو منابع النيل والتوغل في القارة الافريقية, لذلك ظل البريطانيون حتي الآن هم أكثر الأوروبيين خبرة بالشرق الأوسط بينما يملك الفرنسيون المعرفة الكاملة بدول شمال افريقيا وظروفها السياسية وصبغتها الثقافية, لذلك فإننا نعتبر الوجود الأوروبي في المنطقة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بمثابة اقتراب آخر أدي إلي المعرفة المتبادلة بغض النظر عن درجة العداء ونوعية المقاومة ضد الوجود الاجنبي والنضال من أجل الاستقلال.
سادسا: لقد صحا الشرق الأوسط علي مدافع نابليون ومنشوراته مع نهاية القرن الثامن عشر وعندما تولي محمد علي حكم مصر بعد ذلك بسنوات قليلة وبدأت نهضة عمرانية غير مسبوقة استيقظت أوروبا علي مخاطر نزعته الاستقلالية عن السلطة العثمانية وتكوينه امبراطورية مصرية واسعة امتدت من جزر المتوسط إلي منابع النيل, ومن الشام إلي حدود مصر الغربية مرورا بالحجاز وموانئ البحر الاحمر حتي شرق افريقيا فكانت اتفاقية لندن1840 بمثابة مظاهرة أوروبية ضد السياسة التوسعية التي انتهجها مؤسس مصر الحديثة والتي بدأت شرارتها من الوصول الأوروبي إلي مصر والآثار الثقافية الضخمة التي خلفتها الحملة الفرنسية من كتاب وصف مصر إلي اكتشاف شامبليون حجر رشيد إلي الصدمة الحضارية التي شعر بها المصريون وجسدها المؤرخ الشهير عبدالرحمن الجبرتي كما كتب عنها أيضا رفاعة الطهطاوي في كتابه عن باريس بعد عودته منها.
سابعا: إن مصر هي أكبر الدول علي الشاطئ الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط, والأوروبيون يدركون ذلك ويتعاملون معها بهذا الوزن وحتي عندما يتراجع دورها الاقليمي فإنهم يدركون أن تلك ظروف طارئة ومرحلة عابرة لأن لدي مصر ـ بحكم الجغرافيا ومنطق التاريخ ـ كل مقومات الريادة لدولة مركزية محورية في هذه المنطقة في العالم.
هذه نقاط رأيت من إثارتها أن أفتح ملف العلاقات العربية ـ الأوروبية في هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها الشرق الأوسط, سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية أو المسألة العراقية, ولاشك أن العرب مدينون لقيادات أوروبية تاريخية بشيء من التقدير والعرفان, فالزعيم الفرنسي الراحل شارل ديجول الذي قضي بالمنطقة العربية وفي مصر تحديدا فترة من النضال الفرنسي الذي كان يقوده ضد الغزو النازي لبلاده هو نفسه الذي اتخذ موقفا متوازنا من نتائج الحرب العربية ـ الاسرائيلية عام1967 كما أنه هو ايضا الذي أرسي التقاليد الفرنسية الباقية التي تتمثل في استقلالية القرار نسبيا عن الولايات المتحدة الامريكية والقدرة علي كلمة لا عند اللزوم, وإذا كان البريطانيون هم أقرب شعوب أوروبا إلي السياسة الامريكية إلا أن ذلك لايلغي فهمهم الواسع للمنطقة خصوصا أن معظم مشكلاتها هي تاريخيا صناعة بريطانية.
خلاصة القول إن صراعات الشرق الاوسط يجب أن تلقي اهتماما أوروبيا يتناسب مع الخلفية التاريخية والجوار الجغرافي والترابط الأمني, ولقد حان الوقت الذي يجب أن يلعب فيه الأوروبيون دورا يكون امتدادا لمعايشتهم للإسلام عبر القرون, واحتكاكهم بالعرب علي امتداد العصور, وفهمهم لطبيعة الشرق الأوسط, فالاقتراب هو الأب الشرعي للمعرفة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/8/3/WRIT1.HTM