إنه حارس الأرض، ورفيق العصور، وديدبان الزمان، ارتبط بمياه النهر واستوى بنار الإدارة القاسية فى مختلف العهود وظل يتمتع بصفاء ذهنى فريد وحس سياسى فطرى مع نوع من الخبث الحميد والدهاء المعتاد حتى شاع استخدام تعبير (لؤم الفلاحين)، ولقد كتب أحد الأدباء عن الفلاحين ذات مرة أنهم جبلوا على طبائع ظلم فإن لم يُظلموا ظَلموا! لقد تراكمت لدى الفلاح المصرى تجارب طويلة من خلال معاناة بلا حدود، فمنه خرج بناة الأهرامات، ومنه خرج حافرو قناة السويس، ومنه خرج أيضًا من شيدوا السد العالي، لقد كان الفلاح المصرى هدفًا للسخرة عبر القرون ولكنه ظل على ولائه للوطن وارتباطه بالأرض وتطلعه الدائم إلى أقدم إدارة فى التاريخ، ولقد توالى على مصر حكام حاولوا إنصافه، فالوالى محمد سعيد باشا هو صديق الفلاح لأنه أصدر اللائحة السعيدية التى سمحت بتملك الفلاح المصرى لأرضه لأول مرة، ولكن التجسيد الحقيقى ذ فى نظرى - لشخصية الفلاح بين حكامنا هو أنور السادات الذى أعلى من أخلاق القرية واعتبر نفسه كبيرًا للعائلة وسعى إلى قريته ميت أبو الكوم بشكل شبه منتظم كما أن دهاء السادات هو جزء من (لؤم الفلاحين) الذى تحدثنا عنه، كذلك فإن مناوراته السياسية داخليًا وخارجيًا هى تأكيد لما نقول فقد كانت تصرفاته عفوية فى الظاهر، ولكنها لا تخلو من التواء مطلوب وعمق غريزى فى شخصيته الفريدة، أما جمال عبد الناصر فعلى الرغم من أنه لم يعش فى محافظته أسيوط فإنه ابن الصعيد بالخطوط المستقيمة فى سياساته والعناد الوطنى فى طبيعته وعلى كل حال فإنهما معًا يحسبان على القرية المصرية، أما حسنى مبارك فهو نموذج واضح لابن محافظة المنوفية التى أنجبت سلفه السادات وعرف أهلها بحب الجيش المصرى والارتباط به حتى شاع لديهم المثل القائل (شريط على كمى ولا فدان عند أمي)! فالقرية المصرية معطاءة فى كل العصور وتقذف الوطن بالمواهب والكفاءات مهما تكن الظروف والتحديات، ولعلنا نتذكر بعض الأسماء التى زحفت من القرية إلى ساحة الوطن الكبرى لترصع تاريخه من محمد عبده وطه حسين إلى أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وصولًا إلى عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل ومئات الأسماء الأخرى التى جاءت من قرى الدلتا أو أعماق الصعيد لتؤكد دورها وتثبت وجودها وتخترق الحجب وتقفز فوق العوائق لتصنع اسمًا وتاريخًا وتصبح من رموز عصرها وعلامات زمانها، فالفلاح المصرى هو تجسيد للعبقرية التى بدأت بكلمات الفلاح الفصيح فى العصر الفرعونى وهو يخاطب حكام مصر القديمة معلنًا عن وجوده وارتباطه بالنهر الذى لم يلوث مياهه مرورًا بـ أحمد عرابى زعيم أبناء الفلاحين فى الجيش المصرى وصولًا إلى شهداء دنشواى البواسل الذين تدلت أجسادهم من حبال المشانق فى قريتهم وأمام ذويهم فى واحدة من أفظع الجرائم فى حق الفلاح المصرى الذى يتسم بالرضا والقناعة وقبول الأمر الواقع، ولعلى أطرح هنا الملاحظات التالية:
أولًا: إن الفلاح المصرى اختلف الآن عما كان عليه منذ عدة عقود ولم تعد القرية هى تلك الوحدة المنتجة كما كانت عندما يهمس فى أذنك أحد أقاربك - فى ختام زيارة لبلدتك الأصلية - طالبًا مفتاح الحقيبة الخلفية للسيارة ليضع فيها ما لذ وطاب من خيرات الريف لحومًا ودواجن ومخبوزات! ولكن الصورة اختلفت الآن فلقد أصبحت القرية فى الغالب عالة على المدينة الصغيرة القريبة منها وبدأت الأفران الآلية تعمل ولم يعد بيت الفلاح هو تلك المضيفة التى اشتهر بها، وأنا أزعم أن قانون الإصلاح الزراعى يمكن أن يتحمل جزءًا من مسئولية ما حدث رغم تسليمى بأن قانون تنظيم الملكية الزراعية كان مطروحًا قبل ثورة يوليو عام 1952، بل إن السفير الأمريكى فى القاهرة فى نهاية الأربعينيات من القرن الماضى روّج له بين عدد من أعضاء مجلس النواب المصرى كما تحدث عنه رجال من أمثال محمد خطاب وإبراهيم شكرى وميريت غالي.
ثانيًا: لقد لعب الجيش المصرى دورًا تاريخيًا فى تحضير القرية وإحداث نقلة نوعية بين شبابها، فالفلاح الشاب يعود بعد أداء خدمته العسكرية وقد تغيرت نظرته وزادت خبرته وأصبح أكثر وعيًا ورشدًا، وقد يعود أيضًا بحرفة تعلمها أو مهنة أتقنها، فضلًا عن ارتفاع مستواه الثقافى ورؤيته الجديدة لذاته وربما للوطن من حوله.
ثالثًا: إن الانفتاح على العالم الخارجى وخروج أبناء القرية إلى البلاد العربية والأوروبية قد غير الصورة تمامًا وجعل المسافة بين القرية والمدينة الصغيرة تتلاشى بسرعة ملحوظة وفرض على الجميع أسلوبًا متقاربًا فى المعيشة وأنماط الاستهلاك ومظاهر الحياة الاجتماعية التى انتقلت إلى القرية من المدينة بسرعة مشهودة فى السنوات الأخيرة.
رابعًا: لقد أفرز النظام الناصرى حقوقًا سياسية طبيعية للعمال والفلاحين الذين دخلوا المجالس النيابية على جميع مستوياتها، ورغم أن التجربة لم تكن كما أرادها من قررها إلا أنها تبقى طريقًا مرحليًا لدخول (الفلاح الأجير) إلى البرلمان بعد طول حرمان، ولكن لابد أن نعترف هنا أن تجاوزات كثيرة قد أجهضت هذه التجربة التاريخية حيث ادعى البعض صفة (فلاح) ، فضلًا عن إمكانية استخدام الحيازة الزراعية أسلوبًا للوصول إلى البرلمان دون أن يكون صاحبها فلاحًا حقيقيًا أو حتى مزارعًا طبيعيًا.
تحية للفلاح المصرى .. صانع المعجزات، وبانى الأهرامات، وحافر القنوات، ووقود المشروعات.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/696778.aspx