قضت الظروف فى الشهور الأخيرة أن أقترب من أسرة المفكر الراحل والكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل»، رغم أننى قد تأثرت بشخصيته وتعلقت به منذ سنوات شبابى الباكر عندما كنا نعيش على مقاله «بصراحة» من أسبوع إلى أسبوع، نلتهم كلماته ونحفظ بعض سطوره ونردد أفكاره ونبحث فيما وراء السطور فى وقت لم تكن فيه منافذ الحريات مفتوحة بمنطق الثورة، حيث مضى الجميع على طريق واحد، فكان «هيكل» بالنسبة لنا هو بارقة الأمل ونافذة الضوء، ربما الوحيدة، ولكن الرجل لم يستثمر ذلك من أجل دعاية رخيصة أو استعراض وقتى، فكان عقلًا مضيئًا ورؤية ثاقبة فى أحلك الظروف وأصعب المواقف، كما كان فى الوقت ذاته شديد الاعتزاز بكرامته، مدركًا مكانته، عارفًا بقيمة الآخرين، مقدرًا لسواه فقد ربطته - على سبيل المثال - علاقة طيبة بالكاتب الكبير الراحل «أحمد بهاء الدين»، ولم يسمح لنفسه ذات يوم أن يكون طرفًا فى خصومة علنية إلا فيما ندر، وقد ترفع دائمًا عن النزول إلى معترك المهاترات، ولم يشأ أن يرد على أى تجاوزات تمس فكره أو قلمه أو أسلوبه فى الحياة والكتابة.. وأتذكر أننى كتبت عنه مقالًا قبل ثورة 25 يناير 2011 دفعت ثمنه منعًا من الكتابة فى جريدة الأهرام لمدة عام ونصف، ولم تكن تلك هى المرة الأولى، بل كان مرتين: الأولى تدخل فيها الأستاذ «إبراهيم نافع» محاولًا إعادتى للكتابة، والثانية تدخل فيها الصديق الأستاذ «أسامة سرايا» مطالبًا بعودة مقالى إلى الصحيفة التى كان يترأس تحريرها.. وفى الحالتين كانت علاقتى بهيكل أحد الأركان غير المفهومة فى شخصية من يعمل فى مؤسسة الرئاسة وقريب من مركز صنع القرار، فى وقت كانت النظرة فيها إلى الأستاذ مشوبة بالحذر، ليس فيها اقتراب منه ولا رفض كامل له!
ومنذ سنوات قليلة عندما بلغت السبعين من عمرى تلقيت اتصالًا هاتفيًا فى السابعة من صباح يوم ميلادى، فإذا الأستاذ هيكل على الطرف الآخر يقول لى: سبعون عامًا! إن من يتابع نشاطك الاجتماعى والثقافى يظنك فى الخمسين، ومن يقرأ مقالاتك يحسبك فى التسعين.. وقد شعرت أن تلك العبارة هى أجمل هدية لى فى عيد ميلادى السبعين.
أعود إلى الأسرة المنضبطة، التى ورثت عن عائلها الراحل العظيم الدقة فى كل شىء، فإذا دخلت مكتبه الآن أو منزله وجدت أن السيدة الفاضلة رفيقة عمره وشريكة حياته الأستاذة «هدايت تيمور» التى تحمل درجة الماجستير من كلية الآداب قد جعلت كل شىء فى مكانه كما أراده، باقة الورد الأحمر التى تتغير كل يوم وفقًا لتقاليده الثابتة، ومقعده الذى كان يجلس عليه يبدو خاليًا ومحترمًا، كتبه وأوراقه ومقتنياته موضع رعاية شديدة واهتمام كبير، أما أبناؤه الدكتور «على» الطبيب المعروف فهو أقرب أبناء الأستاذ هيكل شبهًا به فى الملامح وأكثرهم عزوفًا عن الأضواء وتفرغًا لحياته المهنية، والدكتور «أحمد» أصبح شخصية عامة بآرائه الاقتصادية ونجاحاته التجارية، وهو صاحب الضحكة العالية والعقل المتوهج، أما آخر العنقود الأستاذ «حسن» الذى اعتذر عن المناصب الجامعية رغم تفوقه ومضى فى نشاطه الاقتصادى، فهو أيقونة العائلة بذكائه الحاد وصراحته المباشرة، وقد كان هو المفاوض معنا ونحن نسعى للحصول على مكتبة والده وأوراقه لتتزين بها مكتبة الإسكندرية ذات التاريخ العريق والمكانة الرفيعة، ولقد كان أمينًا وصادقًا وواضحًا.. وأعجبتنى الحالة (الديمقراطية) فى الأسرة، فكل شىء يأتى بإجماع الأبناء الثلاثة وتصديق من السيدة الجليلة والدتهم، ومازلت أتأمل فى ذلك النموذج العائلى والقواعد الثابتة التى تسوده والروح المتوازنة التى تسيطر عليه، وسوف يظل «هيكل» أمامى شخصية فريدة ونموذجًا لم أرَ له مثيلًا، فقد كان لرياضته البدنية موعد، ولطعامه موعد، ولقراءاته الواسعة مواعيد، وقد ألزم نفسه دائمًا ببرنامج لا يتغير داخل البلاد أو خارجها، وعندما دعوته إلى زفاف ابنتىَّ الكبرى والصغرى حضر فى الموعد الذى حددته بطاقة الدعوة، وبقى لساعة تقريبًا لينصرف إلى شواغله وارتباطاته فى رقىّ واضح ومجاملة زائدة.. إن هيكل كان مفكرًا عندما يتحدث، وروائيًا عندما يكتب، وذاكرة لا نظير لها عندما يستمع، واسع الأفق، عميق الرؤية، نادر التكرار.. رحمه الله.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1373563