منذ اثنتين وخمسين سنة قامت ثورة يوليو عام اثنين وخمسين من القرن الماضي وكلما أقبل شهر يوليو انشغل عدد من المثقفين المصريين والكتاب العرب بالتنظير لتلك الثورة والبحث في إيجابياتها وسلبياتها, ولكنني أريد أن أخوض هذه المرة فيما خلفته يوليو من تقاليد سياسية ومظاهر للسلطة وطبيعة في الحكم لم تكن مألوفة قبلها لافي مصر وحدها, ولكن في المنطقة العربية كلها.
والملاحظ أن بصمات يوليو قد انطبعت علي عدد كبير من النظم السياسية في الدول العربية بل إن عددا من الانقلابات العسكرية التالية للثورة المصرية في بعض اقطار العالم العربي قد تأثرت إلي حد كبير بها ونقلت عنها حتي إن شهر يوليو ـ تموز في المشرق العربي ـ قد استأثر بعدد من تلك الانقلابات التي نسميها دائما ثورات إلي الحد الذي يسمح لنا الآن بالحديث حول تقاليد يوليو52, وماجلبته إلي المنطقة العربية من مفاهيم جديدة وتقاليد مختلفة, وأنا هنا أبحث في حياد كامل معترفا بأنني انتمي إلي جيل يوليو بكل ماله وماعليه ولايجوز أخذ السطور القادمة كمبرر للانتقاص من ذلك الحدث الضخم وزعاماته التاريخية المتوالية, ولعلي أوضح ماأريد الوصول إليه من خلال محاور خمسة تدور حول شرعية الحكم, ومركزية القرار السياسي, وخصوصية النمط الديمقراطي, ودور الفرد القائد, ثم أخيرا التوجيه السياسي والإعلامي, وكلها في ظني مظاهر اتسمت بها شخصية يوليو في مختلف الأنظمة العربية, ولعلنا نفصل هنا ماأجملناه:
أولا: إن مصدر شرعية الحكم مازال مستمدا من ذلك الحدث الذي جري ليلة23 يوليو عام1952 وأظن أنه سوف يبقي كذلك لفترة غير قصيرة قادمة فقد اصطبغت الحياة السياسية بأسلوب معين في ممارسة السلطة إلي الحد الذي جعل الشرعية الثورية بديلا للشرعية الدستورية لسنوات عدة, وأرسي قواعد في الحكم لم تكن قائمة قبل ذلك وعندما تقدم جيل أكتوبر ـ باعتبارها الحرب العربية الاسرائيلية التي لم ينتكس فيها العرب عسكريا ـ أصبحنا أمام مزيج جديد من مصادر الشرعية يزاوج بين عباءة يوليو وجلباب أكتوبر وكلاهما رافد مؤثر في طبيعة الحكم ومظهر لاستقراره, وبينهما قاسم مشترك هو التداخل بين الشعب ومؤسسته العسكرية.
ثانيا: تتصف تقاليد يوليو ـ في دولة معروفة تاريخيا بأهمية السلطة ـ بمركزية القرار السياسي وهوماأثر إلي حد كبير علي تجربة الادارة المحلية حتي الآن, ومصر دولة نهرية قديمة تستأثر العاصمة فيها بنصيب كبير من مظاهر السلطات الثلاث, كما أن القرار السياسي في النهاية هو الحكم بين تلك السلطات والرجوع إليه منتظم ومتكرر في المسائل الكبيرة وربما الاقل أهمية أيضا, ولكي أكون منصفا فإن هذا المظهر من مظاهر يوليو ليس غريبا علي مصر منذ العصر الفرعوني حيث الدولة المركزية تضع القرار السياسي في قمة السلطة عبر التاريخ.
ثالثا: تميزت يوليو بخصوصية تنفرد بها علي ساحة المشاركة السياسية وهي فلسفة التنظيم السياسي الواحد الذي يضمن أغلبية مطلقة لسلطة الحكم في كل الظروف, وعندما تطورت الأمور وظهرت المنابر السياسية, ثم الأحزاب ظل طغيان حزب الأغلبية علي المسرح السياسي ظاهرا وملموسا, ويبدو أن تلك ظاهرة مصرية, فالحياة الحزبية تمحورت دائما حول شخصيات وليس برامج, كما أن التجربة المتميزة لحزب الوفد المصري مابين الثورتين(19 ـ1952) كانت هي الأخري تعبيرا عن الحركة الوطنية وثوبا فضفاضا يحتوي مطالب الأمة المصرية في الجلاء والدستور فضلا عن سمة ظاهرة من الفصل بين الدين والسياسة وتأكيد الوحدة الوطنية.
رابعا: أعطت يوليو الزعامة السياسية مظهرا خاصا نقلت عنه بعض الدول العربية منذ مطلع الستينيات مع تسليمنا بأن الانقلابات السورية منذ نهاية الأربعينيات قد شكلت بادرة لذلك النمط الفردي في السلطة( حسني الزعيم ـ سامي الحناوي ـ أديب الشيشكلي) إلا أن نموذج يوليو قد نجح في صناعة هالة القائد و كاريزما الزعامة في ظل ظروف مختلفة لعب الصراع العربي ـ الاسرائيلي دورا مؤثرا فيها, وليس من شك في أن تزايد دور الفرد في السلطة وفقا لتقاليد يوليو ونتيجة لروحها وخصوصيتها قد جاء انتقاصا تلقائيا من فلسفة تداول السلطة ودوران النخبة, واتساع مساحة المشاركة السياسية.
خامسا: مثل كل التحولات الضخمة في التاريخ حملت ثورة يوليو1952 معها رياح التغيير في التوجه السياسي والإعلامي, وأصبحت سيطرة الدولة علي مراكز الإرشاد القومي بعد الثورة مباشرة ظاهرة اتسمت بها وارتبطت بوجودها, وإن كنا نعترف بأن الأمور قد تغيرت كثيرا, وأصبحت مساحة الحرية المتاحة أكثر خصوصا في مجال الكلمة المكتوبة حيث تشهد مصر يوليو وأكتوبر حاليا قدرا واسعا من حرية الصحافة عموما.
هذه ملاحظات أوردناها للتدليل علي أهمية الآثار الفكرية والسياسية التي جاءت بها الثورة المصرية ومضت عليها ثورات أخري في المنطقة ولسنا بصدد تقويم ماجري, وانعكاساته فيما نكتبه الآن لايعني أن الثورة قد جاءت تحديا لأوضاع معقولة أو مقبولة لأن الواقع هو الذي يفرض التغيير سواء كان فجائيا أو تدريجيا, وكثيرا مايحلو لي ـ ولغيري ـ مناقشة جدوي قيام الثورة ومقارنتها بمنطق الإصلاح في محاولة جدلية نظرية بحته بل إنه قد صدر لي كتاب ـ منذ سنوات قليلة ـ يبحث في العلاقة بين نهج الثورة وفكر الاصلاح مع الاجابة عن التساؤل الذي يتردد أحيانا حول طبيعة الحكم وشخصية مصر الحديثة لو لم تقم ثورة يوليو عام1952, وهو افتراض جدلي لايقدم ولايؤخر, لكنه يضع أيدينا علي مزايا تقاليد يوليو وسوءاتها, ويسمح بالتحليل الموضوعي لأطر الشرعية القائمة خصوصا أننا نمر بمرحلة كثر فيها الحديث عن الاصلاح وجدواه لا في مصر وحدها ولكن في الشرق الاوسط كله صغيرا أو كبيرا.
إن الحديث عن تقاليد يوليو في هذه الظروف لايبدو بعيدا عما تمر به المنطقة العربية حاليا فكل المفردات المطروحة تمت بصلة إلي آثار يوليو وانعكاساتها علي الحياة العربية بدءا من الصراع العربي الاسرائيلي ـ مرورا بالدعوة الذاتية للاصلاح الداخلي وصولا الي العلاقات مع الولايات المتحدة الامريكية التي باركت قيام تلك الثورة عام1952, وظلت العلاقات معها مابين صعود وهبوط لعدة سنوات إلي أن سيطر عليها توتر شديد بلغ قمته في نهاية الستينيات عندما وجهت اسرائيل ضربة إجهازية للمد القومي الذي تبنته القاهرة بزعامة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ولذلك فنحن نزعم هنا أن تقاليد يوليو هي التي قادت التصعيد العربي ضد الخطر الاسرائيلي لأن الثوار الشباب من الضباط الاحرار عادوا من حرب فلسطين الأولي بشحنات من الغضب الداخلي والإحساس العميق بروح التآمر وصدمة الهزيمة,
لذلك سوف تظل يوليو علامة فارقة في التاريخ العربي الحديث, وفصلا أساسيا في تطور الشرق الأوسط لأنها حدث كبير مازالت أثاره قائمة فوق الأرض العربية, كما أن الذاكرة القومية تضعه في موقع مهم, فضلا عن أن تقاليده مازالت مرعية, وقد تبقي كذلك حينا من الدهر, إن يوليو وتداعياتها لاتزال بحاجة إلي دراسات مستفيضة تقوم علي قدر كبير من الموضوعية بعيدا عن الانطباعات الذاتية والمذكرات الشخصية لأنها غيرت الكثير من شكل الحياة العربية عموما والمصرية خصوصا, كما أنها غرست مفاهيم وصنعت أطرا للنظم السياسية وصلاحيات الحكم وأحدثت تغييرا فجائيا في مسيرة التطور الاجتماعي, ونالت من بعض المؤسسات الفكرية والثقافية, ودخلت في صراعات طويلة مع قوي متعددة, لذلك سوف تظل الدراسات حولها حافلة بالقضايا الخلافية ووجهات النظر المتباينة بشرط الموضوعية الاكاديمية والنزاهة الوطنية لكل من يتصدي للبحث في تقاليد ذلك الحدث الضخم من التاريخ الحديث للشرق الأوسط.
جريدة الاهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2004/7/6/WRIT1.HTM